تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

اختلف المفسرون في قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } فقال قتادة وغيره : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : إني رافعك إلي ومتوفيك ، يعني بعد ذلك .

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أي : مميتك .

وقال محمد بن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وَهْب بن مُنَبِّه ، قال : توفاه الله ثلاث ساعات من النهار حين رفعه الله إليه .

قال ابن إسحاق : والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه .

وقال إسحاق بن بشر{[5073]} عن إدريس ، عن وهب : أماته الله ثلاثة أيام ، ثم بعثه ، ثم رفعه .

وقال مطر الوراق : متوفيك من{[5074]} الدنيا وليس بوفاة موت{[5075]} وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه .

وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا : النوم ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ]{[5076]} } [ الأنعام : 60 ] وقال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ]{[5077]} } [ الزمر : 42 ] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا قام من النوم - : " الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَمَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ " ، وقال الله تعالى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا . وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } إلى قوله [ تعالى ]{[5078]} { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [ النساء : 156 - 159 ] والضمير في قوله : { قَبْلَ مَوْتِهِ } عائد على عيسى ، عليه السلام ، أي : وإن من أهل الكتاب إلا يؤمن{[5079]} بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ، على ما سيأتي بيانه ، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلّهم ؛ لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن الحسن أنه قال في قوله : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } يعني وفاة المنام ، رفعه الله في منامه . قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود : " إنَّ عِيسَى لمَْ يَمُتْ ، وَإنَّه رَاجِع إلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقَيامَةِ " {[5080]} .

وقوله تعالى : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : برفعي إياك إلى السماء { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وهكذا وقع ؛ فإن المسيح ، عليه السلام ، لما رفعه الله إلى السماء تَفَرَّقت أصحابه شيَعًا بعده ؛ فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله ، وآخرون قالوا : هو الله . وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة . وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ، ورَد على كل فريق ، فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ، ثم نَبَع لهم ملك من ملوك اليونان ، يقال له : قسطنطين ، فدخل في دين النصرانية ، قيل : حيلة ليفسده ، فإنه كان فيلسوفا ، وقيل : جهلا منه ، إلا أنه بَدل لهم دين المسيح وحرفه ، وزاد فيه ونقص منه ، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة - التي هي الخيانة الحقيرة - وأحل في زمانه لحم الخنزير ، وصَلّوا له إلى المشرق{[5081]} وصوروا له الكنائس ، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه ، فيما يزعمون . وصار دين المسيح{[5082]} دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارت ما يزيد على اثني عشر ألف معبد ، وبنى المدينة المنسوبة إليه ، واتبعه{[5083]} الطائفة المَلْكِيَّة منهم . وهم في هذا كله قاهرون لليهود ، أيَّدهم{[5084]} الله عليهم لأنهم أقرب إلى الحق منهم ، وإن كان الجميع كفار ، عليهم لعائن الله .

فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق - كانوا هم أتباع كُل نبي على وجه الأرض - إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي ، خاتم الرسل ، وسيد ولد آدم ، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق ، فكانوا{[5085]} أولى بكل نبي من أمته ، الذين يزعمون أنهم على ملّته وطريقته ، مع ما قد حَرّفوا وبدلوا .

ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله بشريعته{[5086]} شريعة جميع الرسل بما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق ، الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة ، ولا يزال قائما منصورًا ظاهرا على كل دين . فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها ، واحتازوا{[5087]} جميع الممالك ، ودانت لهم جميعُ الدول ، وكسروا كسرى ، وقَصروا قيصر ، وسلبوهما كُنُوزَهما ، وأنفقت في سبيل الله ، كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم ، عز وجل ، في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } الآية [ النور : 65 ] ولهذا{[5088]} لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا{[5089]} سلبوا النصارى بلاد الشام وأَجْلَوهم إلى الروم ، فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية ، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة . وقد أخبر الصادق المصدوق أمَّته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ، ويستفيؤون{[5090]} ما فيها من الأموال ، ويقتلون الروم مَقْتلة عظيمة جدا ، لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها ، وقد جمعت في هذا جزءا مفردا . ولهذا قال تعالى : { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي : يوم القيامة { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .


[5073]:في أ: "بشير".
[5074]:في أ: "في".
[5075]:في أ: "مرة".
[5076]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[5077]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[5078]:زيادة من ر، أ.
[5079]:في جـ، أ، و: "ليؤمن"، وفي ر: "فيؤمن".
[5080]:تفسير ابن أبي حاتم (2/296) ورواه الطبري في تفسيره (6/455) من طريق عبد الله بن جعفر عن أبيه عن الربيع عن الحسن به مرسلا.
[5081]:في ر: "الشرق".
[5082]:في أ: "عيسى".
[5083]:في أ: "واتبعته".
[5084]:في ر: "أيديهم".
[5085]:في جـ، أ: "وكانوا".
[5086]:في جـ: "شريعة". وفي ر: "شريعته".
[5087]:في ر، و: "واختاروا".
[5088]:في أ: "فلهذا".
[5089]:في و: "حقا بالمسيح".
[5090]:في أ: "ويستلبون".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

{ إذ قال الله } ظرف لمكر الله أو خير الماكرين ، أو المضمر مثل وقع ذلك . { يا عيسى إني متوفيك } أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى ، عاصما إياك من قتلهم ، أو قابضك من الأرض من توفيت مالي ، أو متوفيك نائما إذ روي أنه رفع نائما ، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت . وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى . { ورافعك إلي } إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي . { ومطهرك من الذين كفروا } من سوء جوازهم أو قصدهم { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } يعاونهم بالحجة أو السيف في غالب الأمر ، ومتبعوه من آمن بنبوته من المسلمين والنصارى وإلى الآن لم تسمع غلبة لليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة . { ثم إليّ مرجعكم } الضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه ومن كفر به ، وغلب المخاطبين على الغائبين . { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين .