تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردَّ على قومه في ذلك : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على يقين وأمر جلي ، ونبوة صادقة ، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : خفيت عليكم ، فلم تهتدوا إليها ، ولا عرفتم قدرها ، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها ، { أَنُلْزِمْكُمُوهَا } أي : نَغْضبكم{[14570]} بقبولها وأنتم لها كارهون .


[14570]:- في ت : "نغصبكم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ يَقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّن رّبّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مّنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } .

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة : يا قَوْمِ أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي على علم ومعرفة وبيان من الله لي ما يلزمني له ، ويجب عليّ من إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها . وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يقول : ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة ، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني . فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة : «فَعَمِيَتْ » بفتح العين وتخفيف الميم ، بمعنى : فعميت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها فتقروا بها وتصدقوا رسولكم عليها . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الميم ، اعتبارا منهم ذلك بقراءة عبد الله ، وذلك أنهما فيما ذكر في قراءة عبد الله : «فعماها عليكم » .

وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضمّ العين وتشديد الميم للذي ذكروا من العلة لمن قرأ به ، ولقربه من قوله : أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبيّ وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فأضاف الرحمة إلى الله ، فكذلك تعميته على الاَخرين بالإضافة إليه أولى . وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه ، وذلك أن الإنسان هو الذي يَعْمَى عن إبصار الحقّ ، إذ يَعْمى عن إبصاره ، والحقّ لا يوصف بالعَمَى إلا على الاستعمال الذي قد جري به الكلام ، وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظير قولهم : دخل الخاتم في يدي ، والخفّ في رجلي ، ومعلوم أن الرجل هي التي تدخل في الخفّ ، والأصبع في الخاتم ، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك لما كان معلوما المراد فيه .

وقوله : أنُلْزِمُكْمُوها وأنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ يقول : أنأخذكم بالدخول في الإسلام وقد عماه الله عليكم ، لها كَارِهُونَ يقول : وأنتم لإلزامناكموها كارهون ، يقول : لا نفعل ذلك ، ولكن نكل أمركم إلى الله حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال نوح : يا قَوْمِ إنْ كُنْتُ عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي قال : قد عرفُتها وعرفتُ بها أمره وأنه لا إله إلا هو ، وآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنَدِهِ : الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي . . . الآية ، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية ، قال : في قراءة أبيّ : «أنلزُمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، قال : أخبرنا عمرو بن دينار قال : قرأ ابن عباس : «أنلزمكموها من شطر أنفسنا » قال عبد الله : مِنْ شَطْرِ أنفسنا : من تلقاء أنفسنا .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس مثله .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : أنلزمكموها من شطر قلوبنا وأنتم لها كارهون .