{ والنجم إذا هوى } أقسم الله تعالى بالنجم وقت غروبه على أن محمدا صلى الله عليه وسلم منزه عن شائبة الضلال والغواية . والنجم : اسم جنس لكل كوكب ؛ فالمقسم به جنس النجم المعروف إذا هوى ، أي سقط وغرب . يقال : هوى يهوي هويا وهويا ، سقط من فوق إلى أسفل . وقيل : المصدر بالضم إذا سقط ، وبالفتح إذا صعد ، وقيل بالعكس . وتقييد المقسم به بوقت هويه لأنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيدا عن الأرض فلا يهتدي به الساري ؛ لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ، ولا الجنوب من الشمال . فإذا هبط من وسط السماء تبين بهبوطه جانب المغرب من المشرق ، والجنوب من الشمال .
{ 1-18 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }
يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي : سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار ، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة ، ما أوجب أن أقسم به ، والصحيح أن النجم ، اسم جنس شامل للنجوم كلها ، وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي ، لأن في ذلك مناسبة عجيبة ، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء ، فكذلك الوحي وآثاره زينة للأرض ، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء ، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم .
* والمقسم عليه ، تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه ، والغي في قصده ، ويلزم من ذلك أن يكون مهتديا في علمه ، هاديا ، حسن القصد ، ناصحا للأمة{[890]} بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم ، وفساد القصد{[891]}
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها وهي قوله تعالى : " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " [ النجم : 32 ] الآية . وقيل : اثنتان وستون آية . وقيل : إن السورة كلها مدنية . والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . وفي " البخاري " عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) وعن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال : يكفيني هذا . قال عبدالله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا ، متفق عليه . الرجل يقال له{[1]} أمية بن خلف . وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه{[2]} أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة " والنجم إذا هوى " [ النجم : 1 ] فلم يسجد . وقد مضى في آخر " الأعراف{[3]} " القول في هذا والحمد لله .
قوله تعالى : " والنجم إذا هوى " قال ابن عباس ومجاهد : معنى " والنجم إذا هوى " والثريا إذا سقطت مع الفجر ، والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما ، يقال : إنها سبعة أنجم ، ستة منها ظاهرة وواحد{[14333]} خفي يمتحن الناس به أبصارهم . وفي " الشفا " للقاضي عياض : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما . وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل ؛ لأنه كان ينزل نجوما . وقاله الفراء . وعنه أيضا : يعني نجوم السماء كلها حين تغرب . وهو قول الحسن قال : أقسم الله بالنجوم إذا غابت . وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع ، كقول الراعي :
فباتت تَعُدُّ النجم في مُسْتَحِيرَةٍ *** سريع بأيدي الآكلين جُمُودُها
أحسنُ النجم في السماء الثُّريَّا *** والثريا في الأرض زَيْنُ النِّساء
وقال الحسن أيضا : المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة . وقال السدي : إن النجم ههنا الزهرة ؛ لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها . وقيل : المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين ، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده ، فذعر أكثر العرب منها - وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا ، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال : انظروا البروج الاثني عشر فإن انقضى منها شيء فهو ذهاب الدنيا ، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم ، فاستشعروا ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه ، فأنزل الله تعالى : " والنجم إذا هوى " أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت . وقيل : النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق ، وهوى أي سقط على الأرض . وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم : " والنجم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " إذا هوى " إذا نزل من السماء ليلة المعراج . وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال : لآتينّ محمدا فلأوذينه ، فأتاه فقال : يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى . ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه ابنته وطلقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة ، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام ، فنزلوا منزلا ، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة . فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد ، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم ، وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمّمُ وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله . وقال حسان :
من يَرْجِع العام إلى أهله *** فما أَكِيلُ السَّبْعِ بالراجع{[14334]}
وأصل النجم الطلوع ، يقال : نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان . والهوي النزول والسقوط ، يقال : هوى يهوي هويا مثل مضى يمضى مضيا ، قال زهير :
فشَجَّ بها الأمَاعِزَ{[14335]} وهي تهوي *** هُوِيّ الدّلو أسلمها الرِّشَاءُ
وقال آخر{[14336]} :
بينما نحن بالبَلاَكِث فالقا *** ع سراعاً والعِيسُ تهوي هُوِياً
خطرت خَطْرَةٌ على القلب من ذك *** راكِ وهنا فما استطعتُ مُضِيّا
الأصمعي : هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل . قال : وكذلك انهوى في السير إذا مضى فيه ، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى ، وقد جمعهما الشاعر في قوله :
وكم منزل لولايَ طِحْتَ كما هَوَى *** بِأَجْرَامِهِ من قُلَّةِ النِّيقِ مَنْهَوِي{[14337]}
سورة النجم{[1]}
مقصودها ذم الهوى لإنتاجه الضلال والعمى بالإخلاد إلى الدنيا التي هي دار الكدور والبلاء ، والتصرم والفناء ، ومدح العلم لإثماره الهدى في الإقبال على الأخرى لأنها دار البقاء في السعادة أو الشقاء ، والحث على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في نذارته التي بينتها سورة ق وصدقتها{[2]}/ الذاريات وأوقعتها وعينتها الطور كما تتبع في بشارته لأن علمه هو العلم لأنه لا ينطق عن الهوى لا في صريح الكناية ، ولا في بيانه له لأن الكل عن الله الذي له صفات الكمال فلا [ بد ] من بعث الخلق إليه وحشرهم لديه لتظهر حكمته غاية الظهور فيرفع أهل التزكي والظهور ، ويضع أهل الفجور ، ويفضح كل متحل بالزور ، متجل للشرور ، وعلى ذلك دل اسمها النجم عن تأمل القسم والجواب وما نظم به من نجوم الكتاب ( بسم الله ) الذي أحاط بصفات الكمال فلا يكون رسوله إلا من ذي الكمال ( الرحمن ) الذي عم الموجودات بصفة الجمال ( الرحيم ) الذي خص أهل وده بالإنقاذ من الضلال والهداية إلى ما يرضي من الخلال وصالح الأعمال .
ولما ختمت الطور بأمره صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والتحميد ، وكان أمره تكويناً لا تكليفاً ، فكان فاعلاً لا محالة ، وذاك بعد تقسيمهم القول في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن وساحر ومجنون ، وكان لذلك تعلق بالشياطين ، وكانت الشياطين مباينة للقرآن بختلها وبمنعها بالرجوم من النجوم كما بين آخر الشعراء ، افتتحت هذه بالحث على الاهتداء بهدية والاستدلال بدله واتباع أثره ، ولما كان من ذلك تسبيحه بالحمد في إدبار النجوم أقسم أول هذه بالنجم على وجه أعم مما في آخر تلك فعبر بعبارة تفهم عروجه وصعوده لأنه لا يغيب في الأفق الغربي واحد من السيارة إلا وطلع من الأفق الشرقي في نظير له منها لما يكون عند ذلك من تلك العبارة العالية ، والأذكار الزاكية ، مع ما فيه من عجيب الصنع الدال على وحدانية مبدعه من زينة السماء التي فيها ما توعدون والحراسة من المردة حفظاً لنجوم الكتاب والاهتداء به الدين والدنيا ، وغير ذلك من الحكم التي يعرفها الحكماء ، فقال تعالى : { والنجم } أي هذا الجنس من نجوم السماء أو القرآن لنزوله منجماً مفرقاً وهم يسمون{[61667]} التفريق تنجيماً - أو النبات ، قال البغوي{[61668]} : سمي النجم{[61669]} نجماً لطلوعه وكل طالع نجم . { إذا هوى } أي نزل للأفول أو لرجم الشياطين عند الاستراق كما رواه عكرمة عن ابن عباس{[61670]} رضي الله عنهما إن كان المراد السمائي ، فكانت عنده العبادة والاستغفار والدعاء للملك الجبار بالأسحار ، أو صعد فكان به اهتداء المصلي والقارئ والساري ، فإنه يقال : هوى هوياً - بالفتح إذا سقط ، وبالضم - إذا علا وصعد ، أو نزل به الملك للإصعاد وللإبعاد إن كان المراد القرآني لما يحصل من البركات في الدين والدنيا والشرح للصدور ، والاطلاع على عجائب المقدور ، أو إذا سقط منبسطاً على الأرض أو ارتفع عنها إن كان المراد النبات ، لما فيه من غريب الصنعة وجليل التقدير الدال على عام القدرة وكمال العلم والتوحد بالملك والغنى المطلق .