الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ومن الناس} النضر بن الحارث.

{من يشتري لهو الحديث} باطل الحديث، يقول: باع القرآن بالحديث الباطل حديث رستم وأسفندياز، وزعم أن القرآن مثل حديث الأولين حديث رستم وأسفنديار.

{ليضل عن سبيل الله} لكي يستنزل بحديث الباطل عن سبيل الله الإسلام.

{بغير علم} يعلمه {ويتخذها هزوا}: ويتخذ آيات القرآن استهزاء به مثل حديث رستم وأسفنديار، وهو الذي قال: ما هذا القرآن إلا أساطير الأولين.

وذلك أن النضر بن الحارث قدم إلى الحيرة تاجرا، فوجد حديث رستم وأسفنديار، فاشتراه، ثم أتى به أهل مكة، فقال: محمد يحدثكم عن عاد وثمود، وإنما هو مثل حديث رستم وأسفنديار.

{أولئك لهم عذاب مهين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل، في تأويل قوله:"وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث" فقال بعضهم: من يشتري الشراء المعروف بالثمن...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: من يختار لهو الحديث ويستحبه... عن قَتادة، قوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ "والله لعله أن لا ينفق فيه مالاً، ولكن اشتراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع...

وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال: معناه: الشراء، الذي هو بالثمن، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه.

فإن قال قائل: وكيف يشتري لهو الحديث؟ قيل: يشتري ذات لهو الحديث، أو ذا لهو الحديث، فيكون مشتريا لهو الحديث.

وأما الحديث، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الغناء والاستماع له...

وقال آخرون: عنى باللهو: الطّبل... وقال آخرون: عنى بلهو الحديث: الشرك... والصواب من القول في ذلك أن يقال: عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسولُه، لأن الله تعالى عَمّ بقوله "لَهْوَ الحَدِيثِ" ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك.

وقوله: "لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ" يقول: ليصدّ ذلك الذي يشتري من لهو الحديث عن دين الله وطاعته، وما يقرّب إليه من قراءة قرآن وذكر الله... وقوله: "بغَيْرِ عِلْمٍ" يقول: فعل ما فعل من اشترائه لهو الحديث، جهلاً منه بما له في العاقبة عند الله من وزر ذلك وإثمه.

وقوله: "وَيَتّخِذَها هُزُوا" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة: «وَيَتّخِذُها» رفعا، عطفا به على قوله: "يَشْتَرِي" كأن معناه عندهم: ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ويتخذ آيات الله هزوا. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: "وَيَتّخِذَها" نصبا عطفا على "يضلّ"، بمعنى: ليضلّ عن سبيل الله، وليتخذَها هُزُوا.

والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ، فمصيب الصواب في قراءته، والهاء والألف في قوله: ويَتّخِذَها من ذكر سبيل الله... وقال آخرون: بل ذلك من ذِكر آيات الكتاب...

"ويَتّخِذَها هُزُوا" يستهزئ بها ويكذّب بها. وهما من أن يكونا من ذكر سبيل الله أشبه عندي لقربهما منها، وإن كان القول الآخر غير بعيد من الصواب. واتخاذه ذلك هُزُوا هو استهزاؤه به.

وقوله: "أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا أنهم يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، لهم يوم القيامة عذاب مُذِلّ مخزٍ في نار جهنم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

" ليضل عن سبيل الله "أي ليتشاغل بما يلهيه عن سبيل الله، ومن قرأ بالضم أراد ليضل غيره بذلك...

"له عذاب مهين" أي عذاب يذله..

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

تأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى به أهل الباطل واللعب، وذلك أن المعنيّ بذلك، النضر بن الحارث، الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد كان يشتري كتباً فيها أحاديث الفرس، فكان يتلهى بها في مجالسهم ويجعلها كالمعارضة للقرآن، وهذه الأقوال أليق بالظاهر، لأن الغناء لا يطلق عليه الوصف بأنه حديث ولا إضلال، وإنما يطلق ذلك على الأحاديث الكاذبة الجارية مجرى القدح في القرآن، فمن هذا الوجه يدل على أن الإقدام على كل قوم بغير علم لا يحسن، لأن الله تعالى قبح ذلك من حيث إنه كان إقداماً بغير علم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

اللهو: كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني و {لَهْوَ الحديث} نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي من كان وكان، ونحو الغناء وتعلم الموسيقا، وما أشبه ذلك. وقيل: نزلت في النضر بن الحرث، وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً ويقول: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقيل: كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه...

فإن قلت: ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت: معناها التبيين، وهي الإضافة بمعنى من، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه، كقولك: صفّة خز وباب ساج. والمعنى: من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره، فبين بالحديث. والمراد بالحديث. الحديث المنكر، كما جاء في الحديث:"الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه. وقوله: {يَشْتَرِى} إما من الشراء، على ما روى عن النضر: من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان. وإما من قوله: {اشتروا الكفر بالإيمان} [آل عمران: 177] أي استبدلوه منه واختاروه عليه. وعن قتادة: اشتراؤه: استحبابه، يختار حديث الباطل على حديث الحق. وقرىء: {لِيُضِلَّ} بضم الياء وفتحها. و {سَبِيلِ الله} دين الإسلام أو القرآن.

فإن قلت: القراءة بالضم بينة، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو: أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت: فيه معنيان، أحدهما: ليثبت على ضلاله الذي كان عليه، ولا يصدف عنه، ويزيد فيه ويمدّه، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه. والثاني: أن يوضع ليضل موضع ليضل، من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة، فدل بالرديف على المردوف.

فإن قلت: ما معنى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} قلت: لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال: يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث منضاف إلى كفر، فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: {ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً}، والتوعد بالعذاب المهين.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

لما بين أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكمية بين من حال الكفار أنهم يتركون ذلك ويشتغلون بغيره، ثم إن فيه ما يبين سوء صنيعهم من وجوه:

الأول: أن ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح.

الثاني: هو أن الحديث إذا كان لهوا لا فائدة فيه كان أقبح.

الثالث: هو أن اللهو قد يقصد به الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « روحوا القلوب ساعة فساعة» رواه الديلمي عن أنس مرفوعا ويشهد له ما في مسلم « يا حنظلة ساعة وساعة» والعوام يفهمون منه الأمر بما يجوز من المطايبة، والخواص يقولون هو أمر بالنظر إلى جانب الحق فإن الترويح به لا غير فلما لم يكن قصدهم إلا الإضلال لقوله: {ليضل عن سبيل الله} كان فعله أدخل في القبح.

{بغير علم} عائد إلى الشراء أي يشتري بغير علم.

{مهين} إشارة إلى أمر يفهم منه الدوام، وذلك لأن الملك إذا أمر بتعذيب عبد من عبيده، فالجلاد إن علم أنه ممن يعود إلى خدمة الملك ولا يتركه الملك في الحبس يكرمه ويخفف من تعذيبه، وإن علم أنه لا يعود إلى ما كان عليه وأمره قد انقضى، فإنه لا يكرمه. فقوله: {عذاب مهين} إشارة إلى هذا وبه يفرق بين عذاب المؤمن وعذاب الكافر، فإن عذاب المؤمن ليطهر فهو غير مهين...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي: كما استهانوا بآيات الله وسبيله، أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر، وإلا كانوا من الغفلة وسوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل.

ولما كان المراد: من قصد الضلال عن الشيء، ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال: {بغير علم} ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى. ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال، قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على "يضل "في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وبالرفع للباقين عطفاً على {يشتري}: {ويتخذها} أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق {هزواً}.

ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم. بينه بقوله، جامعاً حملاً على معنى "من" بعد أن أفرد حملاً على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ {أولئك} أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال: {لهم عذاب مهين} أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{لِيُضِلَّ} الناس {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: بعدما ضل بفعله، أضل غيره، لأن الإضلال، ناشئ عن الضلال. وإضلاله في هذا الحديث؛ صده عن الحديث النافع، والعمل النافع، والحق المبين، والصراط المستقيم. ولا يتم له هذا، حتى يقدح في الهدى والحق، ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها، وبمن جاء بها، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه، والقدح في الحق، والاستهزاء به وبأهله، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال، ولا يعرف حقيقته.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه ا لأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح. هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها، ويرسم لها الطريق.

والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان، وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى. وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم.

(ومن الناس من يشتري لهو الحديث).. يشتريه بماله ويشتريه بوقته، ويشتريه بحياته. يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص، يفني فيه عمره المحدود، الذي لا يعاد ولا يعود، يشتري هذا اللهو (ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا) فهو جاهل محجوب، لا يتصرف عن علم، ولا يرمي عن حكمة وهو سيئ النية والغاية، يريد ليضل عن سبيل الله. يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة. وهو سيئ الأدب يتخذ سبيل الله هزوا، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس.

ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة: (أولئك لهم عذاب مهين).. ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وتقديم المُسند في قوله {من الناس} للتشويق إلى تلقي خبره العجيب.

والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} في سورة البقرة (16)؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته: فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قِصص رستم وإسفنديار وبهرام، والكناية تقبيح للذين التّفوا حوله وتلقّوا أخباره، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

بعد أن ذكر الحق سبحانه الكتاب وآياته، وأن فيه هدى ورحمة لمن اتبعه وفلاحا لمن سار على هديه يبين لنا أن هناك نوعا آخر من الناس ينتفعون بالضلال ويستفيدون منه، وإلا ما راجت سوقه، ولما انتشر بين الناس أشكالا وألوانا.

لذلك نرى للضلال فئة مخصوصة حظهم أن يستمروا أن ينتشر لتظل مكاسبهم، ولتظل لهم سيادتهم على الخلق وعبوديتهم لهم واستنزاف خيراتهم.

وطبيعي إن وجد قانون يعيد توازن الصلاح للمجتمع لا يقف في وجهه إلا هؤلاء يحاربونه ويحاربون أهله ويتهمونهم ويشككون في نواياهم، بل ويواجهونهم بالسخرية والاستهزاء مرة وبالتعدي مرة أخرى. وربما قطعوا عليهم سبل الحياة، كما عزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، ثم يكرهون أهل الحق على الهجرة والخروج من أموالهم وأهلهم إلى الحبشة مرة، وإلى المدينة مرة أخرى، لماذا؟ لأن حياتهم تقوم على هذا الضلال فلا بد أن يحافظوا عليه. والحق سبحانه يبين لنا أن هؤلاء الذين يحاربون الحق ويقفون في وجه الدعوة إلى الإيمان يعرفون تماما أنهم لو تركوا الناس يسمعون منهج الله وداعي الخير لا بدّ أن يميلوا إليه؛ لذلك يحولون بين آذان الناس ومنطق الحق، فهم الذين قالوا للناس: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه... (26)} [فصلت].

وما ذلك إلا لأنهم واثقون من لغة القرآن وجمال أسلوبه، واستمالته للقلوب بحلو بيانه، فلو سمعته الأذن العربية لا بدّ وأن تتأثر به، وتقف على وجوه إعجازه، وتنتهي إلى الإيمان.

فإذا ما أفلت منهم أحد، وانصرف إلى سماع الحق أتوه بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن الحق إلى الباطل.

وَمِنَ النَّاسِ: من هنا للتبعيض أي: الناس المستفيدون من الضلال، والذين يسوؤهم أن يأتم الناس جميعا بمنطق واحد، وهدف واحد، وهدى واحد، لأن هذه الوحدة تقضي على تميزهم وجبروتهم وظلمهم في الأرض؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضلال.

يَشْتَرِي: الفعل (شرى) يأتي بمعنى البيع، وبمعنى الشراء. أما إذا جاء الفعل بصيغة (اشترى) فإنه يدل على الشراء الذي يدفع له ثمن، ومن ذلك قوله تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (111)} [التوبة]، وحين نتأمل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ: نجد أن هذه عملية تحتاج إلى طلب للشيء المشترى، ثم إلى ثمن يدفع فيه، وليت الشراء لشيء مفيد إنما {لَهْوَ الْحَدِيثِ: وهذه سلعة خسيسة. إذن: هؤلاء الذين يريدون أن يصدوا عن سبيل الله تحملوا مشقة الطلب، وتحملوا غرم الثمن، ثم وصفوا بالخيبة لأنهم رضوا بسلعة خسيسة، والأدهى من ذلك والأمر منه أن يضعوا هذا في مقابل الحق الذي جاءهم من عند الله على يد رسوله بلا تعب وبلا مشقة وبلا ثمن، جاءهم فضلا من عند الله وتكرما: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى (23)} [الشورى]. فأيّ حمق هذا الذي يوصفون به؟

اللهو: هو الشيء الذي لا مصلحة فيه، ويشغلك عن مطلوب منك.

لماذا يكلفون أنفسهم ويشترون لهو الحديث؟ العلة كما قال الحق سبحانه: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وفرق بين من يشتري اللهو لنفسه يتسلى به، ويقصر ضلاله على نفسه وبين من يقصد أن يضل ويضل غيره؛ لذلك فعليه تبعة الضلالين: ضلاله في نفسه، وإضلاله لغيره.

"لَهْوَ الْحَدِيثِ": لا يقتصر على الغناء والكلام، إنما يشمل الفعل أيضا، وربما كان الفعل أغلب.

"بِغَيْرِ عِلْمٍ": يدل على عدم معرفتهم حتى بأصول التجارة في البيع والشراء، فالتاجر الحق هو الذي يشتري السلعة، بحيث يكون نفعها أكثر من ثمنها، أما هؤلاء فيشترون الضلال، لذلك يقول الحق عنهم: {فما ربحت تجارتهم (16)} [البقرة].

والسبيل: هو الطريق الموصل إلى الخير من أقصر طريق، وهو الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى عنه {اهدنا الصراط المستقيم (6)} [الفاتحة]...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الحديث هنا عن جماعة يستخدمون طاقاتهم من أجل بثّ اللاهدفية وإضلال المجتمع، ويشترون شقاء وبؤس دنياهم وآخرتهم،... ويحتمل أن يكون للشراء هنا معنى كنائي، والمراد منه كلّ أنواع السعي للوصول إلى هذه الغاية.

والتعبير ب (لهو الحديث) بدلا من (حديث اللهو) ربّما كان إشارة إلى أنّ الهدف الأساس لهؤلاء هو اللهو والعبث، والكلام والحديث وسيلة للوصول إليه.

ولجملة (ليضلّ عن سبيل الله) مفهوم واسع أيضاً، يشمل الإضلال العقائدي، كما قرأنا ذلك في قصّة النضر بن الحارث وأبي جهل، وكذلك يشمل الإفساد الأخلاقي كما جاء في أحاديث الغناء.

والتعبير ب (بغير علم) إشارة إلى أنّ هذه الجماعة الضالّة المنحرفة لا تؤمن حتّى بمذهبها الباطل، بل يتّبعون الجهل والتقليد الأعمى لا غير، فإنّهم جهلاء يورطون ويشغلون الآخرين بجهلهم. هذا إذا اعتبرنا (بغير علم) وصفاً للمضلّين، إلاّ أنّ بعض المفسّرين اعتبر هذا التعبير وصفاً للضالّين، أي أنّهم يجرّون الناس الجهلة إلى وادي الانحراف والباطل دون أن يعلموا بذلك لجهلهم.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

فيه خمس مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " " من " في موضع رفع بالابتداء . و " لهو الحديث " : الغناء ، في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . وهو ممنوع بالكتاب والسنة . والتقدير : من يشتري ذا لهو أو ذات لهو ، مثل : " واسأل القرية " {[12549]} [ يوسف : 82 ] . أو يكون التقدير : لما كان إنما اشتراها يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشتراها للهو{[12550]} .

قلت : هذه إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه . والآية الثانية قوله تعالى : " وأنتم سامدون " {[12551]} [ النجم : 61 ] . قال ابن عباس : هو الغناء بالحميرية ، اسمدي لنا ، أي غني لنا . والآية الثالثة قوله تعالى : " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " {[12552]} [ الإسراء : 64 ] قال مجاهد : الغناء والمزامير . وقد مضى في " الإسراء " {[12553]} الكلام فيه . وروى الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ، في مثل هذا أنزلت هذه الآية : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " ) إلى آخر الآية . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة ، والقاسم ثقة وعلي ابن يزيد يضعّف في الحديث . قاله محمد بن إسماعيل . قال ابن عطية : وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبدالله ومجاهد ، وذكره أبو الفرج الجوزي عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والنخعي .

قلت : هذا أعلى ما قيل في هذه الآية ، وحلف على ذلك ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء . روى سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري قال : سئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " فقال : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ؛ يرددها ثلاث مرات . وعن ابن عمر أنه الغناء ، وكذلك قال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول . وروى شعبة وسفيان عن الحكم وحماد عن إبراهيم قال : قال عبد الله بن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب ، وقاله مجاهد . وزاد : إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء وإلى مثله من الباطل . وقال الحسن : لهو الحديث المعازف والغناء . وقال القاسم بن محمد : الغناء باطل والباطل في النار . وقال ابن القاسم سألت مالكا عنه فقال : قال الله تعالى : " فماذا بعد الحق إلا الضلال " {[12554]} [ يونس : 32 ] أفحق هو ؟ ! وترجم البخاري{[12555]} ( باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ، ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك ) ، وقوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا " فقوله : ( إذا شغل عن طاعة الله ) مأخوذ من قوله تعالى : " ليضل عن سبيل الله " . وعن الحسن أيضا : هو الكفر والشرك . وتأوله قوم على الأحاديث التي يتلهى بها أهل الباطل واللعب . وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه اشترى كتب الأعاجم : رستم ، واسفنديار ، فكان يجلس بمكة ، فإذا قالت قريش إن محمدا قال كذا ضحك منه ، وحدثهم بأحاديث ملوك الفرس ويقول : حديثي هذا أحسن من حديث محمد . حكاه الفراء والكلبي وغيرهما . وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه . ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وهذا القول والأول ظاهر في الشراء . وقالت طائفة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الباطل . قال ابن عطية : فكان ترك ما يجب فعله وامتثال هذه المنكرات شراء لها ، على حد قوله تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " {[12556]} [ البقرة : 16 ] ؛ اشتروا الكفر بالإيمان ، أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وقال مطرف : شراء لهو الحديث استحبابه . قتادة : ولعله لا ينفق فيه مالا ، ولكن سماعه شراؤه .

قلت : القول الأول أولى ما قيل به في هذا الباب ؛ للحديث المرفوع فيه ، وقول الصحابة والتابعين فيه . وقد زاد الثعلبي والواحدي في حديث أبي أمامة : ( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما : على هذا المنكب [ والآخر على هذا المنكب ]{[12557]} فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ) . وروى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ) . وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بكسر المزامير ) خرجه أبو طالب الغيلاني . وخرج ابن بشران عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بعثت بهدم المزامير والطبل ) . وروى الترمذي من حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء - فذكر منها : إذا اتخذت القينات والمعازف ) . وفي حديث أبي هريرة : ( وظهرت القيان والمعازف ) . وروى ابن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جلس إلى قينة يسمع منها صب في أذنه الآنك{[12558]} يوم القيامة ) . وروى أسد بن موسى عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن محمد بن المنكدر قال : بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة : ( أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلوهم رياض{[12559]} المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني ) . وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر مثله ، وزاد بعد قوله ( المسك : ثم يقول للملائكة أسمعوهم حمدي وشكري وثنائي ، وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . وقد روي مرفوعا هذا المعنى من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين ) . فقيل : ومن الروحانيون يا رسول الله ؟ قال : ( قراء أهل الجنة ) خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول ، وقد ذكرنا في كتاب التذكرة مع نظائره : ( فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) . إلى غير ذلك . وكل ذلك صحيح المعنى على ما بيناه هناك . ومن رواية مكحول عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه ) .

ولهذه الآثار وغيرها قال العلماء بتحريم الغناء .

الثانية- وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به ، الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل ، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه ؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق . فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشة{[12560]} وسلمة بن الأكوع . فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات{[12561]} والطار والمعازف والأوتار فحرام .

قال ابن العربّي : فأما طبل الحرب فلا حرج فيه ؛ لأنه يقيم النفوس ويرهب العدو . وفي اليراعة{[12562]} تردد . والدف مباح . [ الجوهريّ : وربما سّموا قصبة الراعي التي يزمر بها هيرعة ويراعة ]{[12563]} . قال القشيريّ : ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة ، فهم أبو بكر بالزجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح ) فكن يضربن ويقلن : نحن بنات النجار ، حبذا محمد من جار . وقد قيل : إن الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث .

الثالثة- الاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة ، فإن لم يدم لم ترد . وذكر إسحاق بن عيسى الطباع قال : سألت مالك بن أنس عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذكر أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبريّ قال : أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه ، وقال : إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ، وهو مذهب سائر أهل المدينة ، إلا إبراهيم بن سعد فإنه حكى عنه زكريا الساجي أنه كان لا يرى به بأسا . وقال ابن خويز منداد : فأما مالك فيقال عنه : إنه كان عالما بالصناعة وكان{[12564]} مذهبه تحريمها . وروي عنه أنه قال : تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب ، فقالت لي أمي : أي بني ! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك ، فاطلب العلوم الدينية ، فصحبت ربيعة فجعل الله في ذلك خيرا . قال أبو الطيب الطبري : وأما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ، ويجمل سماع الغناء من الذنوب . وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة : إبراهيم والشعبي وحماد والثوري وغيرهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك . وكذلك لا يعرف بين أهل البصرة خلاف في كراهية ذلك والمنع منه ، إلا ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسا . قال : وأما مذهب الشافعي فقال : الغناء مكروه يشبه الباطل ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته . وذكر أبو الفرج الجوزي عن إمامه أحمد بن حنبل ثلاث روايات قال : وقد ذكر أصحابنا عن أبي بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء ، وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من القصائد الزهديات ، قال : وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه أحمد ، ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال : تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية . فقيل له : إنها تساوي ثلاثين ألفا ، ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال : لا تباع إلا على أنها ساذجة . قال أبو الفرج : وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد ، بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق .

وهذا دليل على أن الغناء محظور ؛ إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم . وصار هذا كقول أبي طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم : عندي خمر لأيتام ؟ فقال : ( أرِقْها ) . فلو جاز استصلاحها لما أمر بتضييع مال اليتامى . قال الطبري : فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالسواد الأعظم . ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) . قال أبو الفرج : وقال القفال من أصحابنا : لا تقبل شهادة المغني والرقاص .

قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة عليه لا تجوز . وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك . وقد مضى في الأنعام عند قوله : " وعنده مفاتح الغيب " {[12565]} [ الأنعام : 59 ] وحسبك .

الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته ؛ إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها ، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها . أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث ، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله . وقال أبو الطيب الطبري : أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا لا يجوز ، سواء كانت حرة أو مملوكة . قال : وقال الشافعي : وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ؛ ثم غلظ القول فيه فقال : فهي دياثة . وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها .

الخامسة- قوله تعالى : " ليضل عن سبيل الله " قراءة العامة بضم الياء ، أي ليضل غيره عن طريق الهدى ، وإذا أضل غيره فقد ضل . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وأبو عمرو ورويس وابن أبي إسحاق ( بفتح الياء ) على اللازم ، أي ليضل هو نفسه . " ويتخذها هزوا " قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم بالرفع عطفا على " من يشتري " ويجوز أن يكون مستأنفا . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : " ويتخذها " بالنصب عطفا على " ليضل " . ومن الوجهين جميعا لا يحسن الوقف على قوله : " بغير علم " والوقف على قوله : " هزوا " ، والهاء في " يتخذها " كناية عن الآيات . ويجوز أن يكون كناية عن السبيل ؛ لأن السبيل يؤنث ويذكر . " أولئك لهم عذاب مهين " أي شديد يهينهم قال الشاعر :

ولقد جزعت إلى النصارى بعدما*** لَقِيَ الصليب من العذاب مهينا{[12566]}


[12549]:راجع ج 9 ص 245 فما بعد.
[12550]:كذا في جميع نسخ الأصل. وفي كتاب النحاس:" أو يكون التقدير: لما كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها كأنه اشترى اللهو". وفي العبارتين غموض، ولعل العبارة هكذا: أو يكون التقدير أنه لما كان إنما يشتريها ويبالغ في ثمنها لأجل لهوها كان كأنه اشترى اللهو.
[12551]:راجع ج 17 ص 121 فما بعد.
[12552]:راجع ج 10 ص 290.
[12553]:راجع ج 10 ص 290.
[12554]:راجع ج 8 ص 335 فما بعد.
[12555]:في آخر كتاب الاستئذان.
[12556]:راجع ج 1 ص 210.
[12557]:ما بين المربعين ساقط من الأصل المطبوع.
[12558]:الآنك: الرصاص.
[12559]:في ج، ش: "رياض الجنة".
[12560]:هو عبد أسود كان يسوق أو يقود بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه.
[12561]:الشبابة (بالتشديد): قبة الزمر، وهي مولدة.
[12562]:اليراعة: مزمار الراعي.
[12563]:ما بين المربعين ساقط من ج، ش.
[12564]:لفظة: "كان" ساقطة من ج.
[12565]:راجع ج 7 ص 3.
[12566]:هذا البيت لجرير من قصيدة يهجو بها الأخطل، مطلعها: أمسيت إذ رحل الشباب حزينا *** ليت الليالي قبل ذاك فنينا.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

ولما كان فطم النفس عن الشهوات . أعظم هدى قائد{[53629]} إلى حصول المرادات ، وكان اتباعها{[53630]} الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات ، وكان في ختام الروم أن{[53631]} من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه ، وكان ما دعا إليه الكتاب هو{[53632]} الحكمة التي نتيجتها الفوز ، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة ، بوضع الأشياء في غير مواضعها ، المثمر للعطب{[53633]} ، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو ، ويعدل

عن{[53634]} جوهر العلم إلى صدق{[53635]} السهو ، عاطفاً على ما تقديره : فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة{[53636]} أهل الكمال : { ومن } ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة . أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من { الناس } أي الذين هم في أدنى رتبة{[53637]} الإحساس ، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان ، فضلاً عن مقام أولي الإحسان .

ولما كان التقدير : من يسير بغير هذا السير ، فيقطع{[53638]} نفسه عن كل خير ، عبر عنه بقوله : { من يشتري } أي{[53639]} غير مهتد{[53640]} بالكتاب ولا مرحوم{[53641]} به { لهو الحديث } أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها{[53642]} الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه ، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث{[53643]} من اللعب كالرقص{[53644]} ونحوه مجتهداً{[53645]} في ذلك معملاً الحيل في تحصيله باشتراء سببه ، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها{[53646]} عن الهموم{[53647]} والغموم ، فينزل إلى أسفل سافلين {[53648]}كما علا الذي{[53649]} قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال{[53650]} ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً ، وقال مجاهد{[53651]} : في شرى القيان والمغنين والمغنيات ، وقال{[53652]} ابن مسعود : اللهو الغناء ، وكذا قال ابن عباس وغيره .

ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال ، بانهماك النفس في ذلك ، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة ، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة ، فتصير أسيرة{[53653]} الغفلة عن الذكر ، وقبيلة الإعراض عن الفكر ، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً{[53654]} يدعون العقول الفائقة ، والأذهان الصافية{[53655]} الرائقة قال تعالى : { ليضل } من الضلال والإضلال على القراءتين{[53656]} ، ضد{[53657]} ما كان عليه المحسنون من الهدى { عن سبيل الله } أي الطريق {[53658]}الواضح الواسع{[53659]} الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات{[53660]} الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها ، منبهاً لهم{[53661]} على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد ، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم ، فإن كان {[53662]}مقصوداً لهم{[53663]} فهو ما لا يقصده من له عداد البشر ، وإلا كانوا من الغفلة وسوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل .

ولما كان المراد : من قصد الضلال عن الشيء ، ترك ذلك الشيء ، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا {[53664]}وهو عالم{[53665]} بأنه لا خير فيه قال : { بغير علم } ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم ، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها ، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا ، فإن هذا حال{[53666]} من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى .

ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن{[53667]} من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه{[53668]} ولا يروج له حال بحال قال{[53669]} معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً{[53670]} على " يضل " في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وبالرفع للباقين عطفاً على { يشتري } : { ويتخذها } أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى{[53671]} أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق { هزواً } .

ولما أنتج له{[53672]} هذا الفعل الشقاء الدائم . بينه بقوله ، جامعاً حملاً{[53673]} على معنى " من " بعد أن{[53674]} أفرد حملاً على لفظها ، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول ، والتعجيب من الواحد أبلغ{[53675]} { أولئك } أي{[53676]} الأغبياء البعيدون عن{[53677]} رتبة الإنسان ، وتهكم{[53678]} بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم{[53679]} فقال : { لهم عذاب مهين * } أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين{[53680]} من الرحمة .


[53629]:من م ومد، وفي الأصل وظ: قايدا.
[53630]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: اتباع.
[53631]:سقط من ظ ومد.
[53632]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فهو.
[53633]:في ظ ومد: للعطف.
[53634]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: من.
[53635]:في ظ: صدق.
[53636]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: حلية.
[53637]:في ظ ومد: رتب.
[53638]:زيد في الأصل: به، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[53639]:زيد من ظ ومد.
[53640]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مستحل.
[53641]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مرحوا.
[53642]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: به.
[53643]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: العتب.
[53644]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كالرقعة.
[53645]:في ظ: مجتهلا.
[53646]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بما.
[53647]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المهموم.
[53648]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كا علاء الدين.
[53649]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كا علاء الدين.
[53650]:راجع الدر المنثور 5/159.
[53651]:راجع الدر المنثور 5/159.
[53652]:راجع الدر المنثور 5/159.
[53653]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أسير.
[53654]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قوم.
[53655]:سقط من ظ.
[53656]:راجع نثر المرجان 5/321.
[53657]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عند.
[53658]:في ظ ومد: الواسع الواضح.
[53659]:في ظ ومد: الواسع الواضح.
[53660]:زيد من ظ وم ومد.
[53661]:سقط من ظ.
[53662]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مقصود.
[53663]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مقصود.
[53664]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يعلم.
[53665]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يعلم.
[53666]:في ظ ومد: شأن.
[53667]:في ظ: لا يمكن.
[53668]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بصالحة.
[53669]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: فقال.
[53670]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عاطفا.
[53671]:زيد من ظ وم ومد.
[53672]:سقط من ظ.
[53673]:في ظ: حمل.
[53674]:في ظ ومد: ما.
[53675]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أهول.
[53676]:سقط من ظ.
[53677]:في ظ: من.
[53678]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تهكمكم.
[53679]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لا يلائم.
[53680]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: للمحسن.