تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {وضرب الله}، يعني: وصف الله مثلا آخر لنفسه عز وجل، والصنم؛ ليعتبروا، فقال: {وضرب الله} {مثلا}، يعني: شبها، {رجلين أحدهما أبكم}، يعني: الأخرس الذي لا يتكلم، وهو: الصنم، {لا يقدر على شيء}، من المنفعة والخير، {وهو كل على مولاه}، يعني: الصنم عيال على مولاه الذي يعبده، ينفق عليه، ويكنه من الحر والشمس ويكنفه، {أينما يوجهه}، يقول: أينما يدعوه من شرق أو غرب، من ليل أو نهار، {لا يأت بخير}، يقول: لا يجيئه بخير، {هل يستوي هو}، يعني: هذا الصنم، {ومن يأمر بالعدل}، يعني: الرب نفسه عز وجل... {وهو على صراط مستقيم}، يعني: الرب نفسه عز وجل يقول: أنا على الحق المستقيم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجْلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ}، يعني: بذلك الصنم، أنه لا يسمع شيئا ولا ينطق؛ لأنه إما خشب منحوت، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه، ولا دفع ضرّ عنه. {وهُوَ كَلّ على مَوْلاَهُ}، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء، فهو كلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم، {أيْنَما يُوجّهْهُ لا يَأْتِ بخَيْرٍ}، يقول: حيثما يوجهه لا يأت بخير؛ لأنه لا يفهم ما يُقال له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم ولا يُفْهَم عنه، فكذلك الصنم لا يعقل ما يقال له فيأتمر لأمر من أمره، ولا ينطق فيأمر وينهي. يقول الله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ} يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه، الذي لا يأتي بخير حيث توجه، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه، وهو: الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته؟ يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله: {وَهُوَ على صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل وأمره به مستقيم، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه.
وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل؛
فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه...
وقال آخرون: بل كلا المثلين للمؤمن والكافر. وذلك قول يُروَى عن ابن عباس...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل؛ لأنه تعالى ذكره مثّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته، ومَثّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقا حسنا فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلاً، إذ كان الله إنما مثّل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا، ومثّل المؤمن الذي وفّقه الله لطاعته فهداه لرشده، فهو يعمل بما يرضاه الله، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرّا وجهرا، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن. وأما المثل الثاني، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء، والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده، فغير كائن ما لا يقدر على شيء، كما قال تعالى ذكره مثلاً، لمن يقدر على أشياء كثيرة. فإذا كان ذلك كذلك، كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء، كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء، كما قال ووصف.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قالوا: هذا المثل كالأول يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما في الأول...
والثاني: ضرب مثل الإله المعبود الحق بالمعبود الباطل... غير أن المثل ههنا ضرب بالذي لا ينطق بالحق ولا يأمر بالعدل والذي يأمر بالعدل ذكر مقابل الأبكم الذي لا يأمر بالعدل...
وفي الأول ضرب المثل الذي لا يملك الإنفاق بالذي يملك الإنفاق...
{وهو على صراط مستقيم}، أي: هو على الحق المستقيم، وهو المعبود بالحق...
قال أبو عوسجة: الكل: العيال، وكذلك قال غيره من أهل الأدب. وقال بعضهم: الكل: الفقير، وهو واحد. والأبكم: الأخرس، وهو الذي لا ينطق البتة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل في معنى ضرب هذا المثل قولان:... أحدهما: أنه مثل ضربه الله في من يؤمل الخير من جهته، وفي من لا يؤمل، فيؤمل الخير كله من الله تعالى، لا من جهة الأوثان والعباد، فلا ينبغي أن يسوى بينهما في العبادة...
الثاني: أنه مثل للكافر والمؤمن... ووجه التقابل في ضرب المثل بهذين الرجلين أنه على تقدير: ومن هو بخلاف صفته "يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم"، في تدبير الأمور بالحق، وهذا زيادة في ضرب المثل من الله تعالى... والكل: الثقل: كل عن الأمر يكل كلا، إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، وكلت السكين كلولا، إذا غلظت شفرتها، وكل لسانه، إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده، فالأصل الغلظ الذي يمنع من النفوذ في الأمر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الأبكم: الذي ولد أخرس، فلا يَفهم ولا يُفهم، {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ}، أي: ثقل، وعيال على من يلي أمره ويعوله، {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ}، حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم، لم ينفع ولم يأت بنجح، {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن}، هو سليم الحواس نفاعاً ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو {يَأْمُرُ} الناس {بالعدل} والخير، {وَهُوَ} في نفسه {على صراط مُّسْتَقِيمٍ}، على سيرة صالحة ودين قويم. وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه، ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع...
اعلم أنه تعالى أبطل قول عبدة الأوثان والأصنام بهذا المثل الثاني، وتقريره: أنه كما تقرر في أوائل العقول أن الأبكم العاجز لا يكون مساويا في الفضل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية، فلان يحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية كان أولى، ثم نقول: في الآية مسألتان:
المسألة الأولى: أنه تعالى وصف الرجل الأول بصفات:
الصفة الأولى: الأبكم، وفي تفسيره أقوال نقلها الواحدي.
الأول: قال أبو زيد رجل أبكم، وهو الفي المقحم، وقد بكم بكما وبكامة، وقال أيضا: الأبكم الأقطع اللسان وهو الذي لا يحسن الكلام.
الثاني: روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يعقل.
الثالث: قال الزجاج: الأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يبصر.
الصفة الثانية: قوله: {لا يقدر على شيء} وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل.
والصفة الثالثة: قوله: {كل على مولاه} أي هذا الأبكم العاجز كل على مولاه. قال أهل المعاني: أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة. يقال: كل السكين إذا غلظت شفرته فلم يقطع، وكل لسانه إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه. فقوله: {كل على مولاه} أي غليظ وثقيل على مولاه.
الصفة الرابعة: قوله: {أينما يوجهه لا يأت بخير} أي أينما يرسله، ومعنى التوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق. يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه. وقوله: {لا يأت بخير} معناه لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم. ثم قال تعالى: {هل يستوي هو} أي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع: {ومن يأمر بالعدل} واعلم أن الآمر بالعدل يجب أن يكون موصوفا بالنطق وإلا لم يكن آمرا، ويجب أن يكون قادرا، لأن الأمر مشعر بعلو المرتبة، وذلك لا يحصل إلا مع كونه قادرا، ويجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل وبين الجور. فثبت أن وصفه بأنه يأمر بالعدل يتضمن وصفه بكونه قادرا عالما، وكونه آمرا يناقض كون الأول أبكم، وكونه قادرا يناقض وصف الأول بأنه لا يقدر على شيء وبأنه كل على مولاه، وكونه عالما يناقض وصف الأول بأنه لا يأت بخير.
ثم قال تعالى: {وهو على صراط مستقيم} معناه كونه عادلا مبرأ عن الجور والعبث.
إذا ثبت هذا فنقول: ظاهر في بديهة العقل أن الأول والثاني لا يستويان، فكذا ههنا والله أعلم.
المسألة الثانية: في المراد بهذا المثل أقوال كما في المثل المتقدم.
فالقول الأول: قال مجاهد: كل هذا مثل إله الخلق وما يدعى من دونه من الباطل. وأما الأبكم فمثل الصنم، لأنه لا ينطق البتة. وكذلك لا يقدر على شيء، وأيضا كل على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه، وأيضا إلى أي مهم توجه الصنم لم يأت بخير، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه وتعالى.
والقول الثاني: أن المراد من هذا الأبكم: هو عبد لعثمان بن عفان كان ذلك العبد يكره الإسلام، وما كان فيه خير، ومولاه وهو عثمان بن عفان كان يأمر بالعدل؛ وكان على الدين القويم والصراط المستقيم.
والقول الثالث: أن المقصود منه: كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا القول أولى من القول الأول، لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك وبالكل وبالتوجيه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى، وأيضا فالمقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور، وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما انقضى هذا المثل كافياً في المراد، ملزماً لهم؛ لاعترافهم بأن الأصنام عبيد الله، في قولهم:"لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"، وكان ربما كابر مكابر فقال: إنهم ليسوا ملكاً له، أتبعه مثلاً آخر لا تمكن المكابرة فيه، فقال تعالى: {وضرب الله}، أي: الذي له الإحاطة الكاملة أيضاً، {مثلاً} ثم أبدل منه: {رجلين}، ثم استأنف البيان لما أجمل فقال تعالى: {أحدهما أبكم}، أي: ولد أخرس؛ ثم ترجم بكمته التي أريد بها أنه لا يَفهم ولا يُفهِم، بقوله: {لا يقدر على شيء}، أي: أصلاً، {وهو كل}، أي: ثقل وعيال، والأصل فيه الغلظ الذي يمنع من النفوذ، كلت السكين، كلولاً: إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكل لسانه: إذا لم ينبعث في القول، لغلظه وذهاب حده -قاله الرماني، {على مولاه}، الذي يلي أمره؛ ثم بين ذلك بقوله تعالى: {أينما يوجهه}، أي: يرسله ويصرفه ذلك المولى، {لا يأت بخير}، وهذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم.
ولما انكشف ضلالهم في تسويتهم الأنداد، -الذين لا قدرة لهم على شيء ما-، بالله الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً، حسن كل الحسن توبيخهم والإنكار عليهم، بقوله تعالى: {هل يستوي هو}، أي: هذا المذكور، {ومن}، أي: ورجل آخر على ضد صفته، فهو: عالم، فطن، قوي، خبير، مبارك الأمر، ميمون النقيبة، {يأمر} بما له من العلم والقدرة، {بالعدل}، أي: ببذل النصيحة لغيره، {وهو}، في نفسه ظاهراً وباطناً، {على صراط}، أي: طريق واضح واسع، {مستقيم}، أي: عامل بما يأمر به، وهذا مثال للمعبود بالحق الذي يكفي عابده جميع المؤن، وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... والمثل الثاني يصور الرجل الأبكم الضعيف البليد الذي لا يدري شيئا ولا يعود بخير. والرجل القوي المتكلم الآمر بالعدل، العامل المستقيم على طريق الخير.. ولا يسوي عاقل بين هذا وذاك. فكيف تمكن التسوية بين ضم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم الآمر بالمعروف، الهادي إلى الصراط المستقيم؟ وبهذين المثلين يختم الشوط الذي بدأ بأمر الله للناس ألا يتخذوا إلهين اثنين، وختم بالتعجيب من أمر قوم يتخذون إلهين اثنين!...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ونظرا لكون الإسلام يدعو إلى العمل الإيجابي والمساهمة الفعلية في إصلاح المجتمع، فإن كتاب الله يستنكر موقف الشخص الكسول العاجز، المتكل على غيره، الذي لا ينفع نفسه ولا غيره، وينوه بموقف الشخص الشجاع الصريح، الذي ينهى عن الظلم ويأمر بالعدل، والذي يعطي المثل من نفسه لبقية الناس في الهداية وحسن السلوك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يضرب مثلا آخر لعبدة الأصنام والمؤمنين والصادقين، فيشبه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء، ويشبه الآخر بإِنسان حر يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم: (وضرب اللّه مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه) ولهذا.. (أينما يوجهه لا يأتِ بخير).
وعلى هذا فيكون له أربع صفات سلبية:
أبكم (لا ينطق ولا يسمع ولا يبصر منذ الولادة).
مع أنّ الصفات المذكورة علة ومعلول لبعضها الآخر، ولكنّها ترسم صورة إِنسان سلبي مائة في المائة، حيث أن وجوده لا ينم عن أي خير أو بركة إِضافة؛ لكونه «كلُّ» على أهله ومجتمعه.
ف (هل يستوي هو ومَنْ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم)؟!
وأمّا الرجل الآخر في مثل الآية فهو صاحب دعوة مستمرّة إلى العدل وسائر على الصراط المستقيم، وما هاتان الصفتان إِلاّ مفتاح لصفات أُخرى متضمنة لها، فصاحب هاتين الصفتين: لسانه ناطق، منطقه محكم، إِرادته قوية، شجاع وشهم؛ لأنّه لا يمكن أن يتصور لداعية العدل أن يكون: أبكم، جباناً وضعيفاً! ولا يمكن أن يكون من هو على صراط مستقيم إِنساناً عاجزاً أبله وضعيف العقل، بل ينبغي أن يكون ذكياً، نبيهاً، حكيماً وثابتاً.
وتظهر المقايسة بين هذين الرجلين ذلك البون الشاسع بين الاتجاهين الفكريين المختلفين لعبدة الأصنام من جهة، وعباد اللّه عزَّ وجلّ من جهة أُخرى، وما بينهم من تفاوت تربوي وعقائدي.