فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

ثم ذكر سبحانه مثلاً ثانياً ضربه لنفسه ، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع فقال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً } أي : مثلاً آخر أوضح مما قبله وأظهر منه ، و{ رَجُلَيْنِ } بدل من مثل وتفسير له ، والأبكم العييّ المفحم ؛ وقيل : هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر ، ثمّ وصف الأبكم فقال : { لاَ يَقْدِرُ على شَيء } من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه ، وعدم قدرته على النطق ، ومعنى { كَلٌّ على مَوْلاهُ } ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله ، ووبال على إخوانه ، وقد يسمى اليتيم : كلا ؛ لثقله على من يكفله ، ومنه قول الشاعر :

أكول لمال الكلّ قبل شبابه *** إذا كان عظم الكلّ غير شديد

وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقاً ، ثم وصفه بصفة رابعة فقال : { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } أي : إذا وجهه إلى أيّ جهة لا يأت بخير قط ، لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول . وقرأ يحيى بن وثاب «أينما يوجه » على البناء للمجهول ، وقرأ ابن مسعود «أينما توجه » على صيغة الماضي { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ } في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } أي : يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم ، ويقدر على التصرّف في الأشياء . { وَهُوَ } في نفسه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على دين قويم ، وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط ، قابل أوصاف الأوّل بهذين الوصفين المذكورين للآخر ، لأن حاصل أوصاف الأوّل عدم استحقاقه لشيء ، وحاصل وصفي هذا أنه يستحق أكمل استحقاق ، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكاً له .

/خ79