{يسألونك عن الخمر} [البقرة: 219]. 124- ابن العربي: قال مالك: وغيره: الخمر كل شراب مطرب، من أي شيء اعتصرت لقول عمر: إن الخمر نزل، وهو من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل.
{والمسير}. 125- المهدوي: قال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار ما يتخاطر الناس عليه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشربها. والخمر: كل شراب خامر العقل فستره وغطى عليه، وهو من قول القائل: خَمَرت الإناء إذا غطيته، وخَمِرَ الرجل: إذا دخل في الخَمَرِ، ويقال: هو في خُمار الناس وغُمارهم، يراد به: دخل في عُرض الناس. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر، ومن ذلك أيضا خِمار المرأة، وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه، ومنه يقال: هو يمشي لك الخَمَر، أي مستخفيا.
وأما «الميسر» فإنها «المفعِل» من قول القائل: يسَر لي هذا الأمر: إذا وجب لي فهو يَيْسِر لي يَسَرا ومَيْسِرا، والياسر: الواجب، بقداح وجب ذلك أو مباحه أو غير ذلك، ثم قيل للمقامر: ياسر، ويَسَر، وقيل للقمار: ميسر، وكان مجاهد يقول: القمار، وإنما سمي الميسر لقولهم أيسروا واجزروا، كقولك ضع كذا وكذا عن مجاهد، قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.
عن محمد بن سيرين، قال: كل قمار ميسر حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه.
عن عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد: ميسر، أرأيت الشطرنج ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر.
عن ابن عباس، قال: الميسر: القمار، كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله.
"قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ": قل يا محمد لهم فيهما، يعني في الخمر والميسر إثم كبير. فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي: فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم.
عن مجاهد: "قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ "قال: هذا أول ما عيبت به الخمر.
عن ابن عباس قوله: "قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ": يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها.
والذي هو أولى بتأويل الآية، الإثم الكبير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر، فالخمر ما قاله السدي: زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظم الآثام، وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في الميسر فما فيه من الشغل به عن ذكر الله، وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: "إنّمَا يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصّلاةِ".
"وَمَنافِعُ للنّاسِ": فإن منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة. وأما منافع الميسر فيما يصيبون فيه من أنصباء الجزور، وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره، ثم اقتسموا أعشارا على عدد القداح.
"وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا": والإثم بشرب هذه والقمار هذا، أعظم وأكبر مضرّة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشرّ، فأدّاهم ذلك إلى ما يأثمون به.
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرّح بتحريمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن سببهما يحدث.
وقد قال عدد من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.
وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر الله في هذه الآية فأضافه إليهما إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما على ما وصفنا، لا الإثم بعد التحريم.
حدثني محمد بن معمر، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثا، فكان أول ما أنزل: يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ الآية، فقالوا: يا رسول الله ننتفع بها ونشربها، كما قال الله جل وعز في كتابه. ثم نزلت هذه الآية: يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى... الآية، قالوا: يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة قال: ثم نزلت: إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُرّمَتِ الخَمْرُ».
"وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ": ويسألك يا محمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به، فقل لهم يا محمد أنفقوا منها العفو.
واختلف أهل التأويل في معنى: العَفْو في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: معناه: الفضل... ما فضل عن أهلك... قال ابن زيد في قوله: كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه، فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا، ويتصدقون به على الناس.
وقال آخرون: معنى ذلك ما كان عفوا لا يبين على من أنفقه أو تصدق به... ما لا يتبين في أموالكم... اليسير من كل شيء.
وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا... أن لا تجهد مالك حتى ينفد، فتسأل الناس.
وقال آخرون: معنى ذلك: خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلاً أو كثيرا. وقال آخرون: معنى ذلك ما طاب من أموالكم. وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة. وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى العفو: الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مئونتهم وما لا بدّ لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصدقته في وجه البرّ.
حدثني محمد بن معمر البحراني، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِيرا فَلْيَبَدأ بِنَفْسِهِ، فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِمَنْ يَعُولُ، ثُمّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدّقْ على غَيْرِهِمْ».
حدثنا عمرو بن عليّ، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم، عن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: «هاتها» مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: «يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلّهِ يَتَصَدّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفّفُ النّاسَ إنّمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غَنِى».
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب. فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق الفضل من ذلك، هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو في كلام العرب في المال وفي كل شيء هو الزيادة والكثرة، ومن ذلك قوله جل ثناؤه: "حَتى عَفَوْا "بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، ومن ذلك قيل للرجل: خذ ما عفا لك من فلان، يراد به: ما فضل فصفا لك عن جهده بما لم تجهده. كان بينا أن الذي أذن الله به في قوله قُلِ العَفْوَ لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه هو الذي بين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خَيْرُ الصّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى» وأذنهم به.
فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة المفروضة؟ قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أن من حلت في ماله الزكاة المفروضة، فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة، أن عليه أن يسلمه إليهم، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم (في) ماله إليهم، وذلك لا شك أنه جهده إذا سلمه إليهم لا عفوه، وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علم عباده وجه إنفاقهم من أموالهم عفوا، ما يبطل أن يكون مستحقا اسم جهد في حالة، وإذا كان ذلك كذلك فبّين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ المال إلى إمامه، فأعطاه كائنا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقول من زعم أنه الصدقة المفروضة.
وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول: إن معناه ما لم يتبين في أموالكم، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة: إن من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ» وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له نحوا من ذلك. والثلث لا شك أنه بين فقده من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: "وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلم يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما" وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَحْسُورا" وذلك هو ما حده صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.
ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة، أم ثابتة الحكم على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة نسختها الزكاة المفروضة.
وقال آخرون: بل مثبتة الحكم غير منسوخة. والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية من أن قوله: "قُلِ العَفْوَ" ليس بإيجاب فرض فرض من الله حقا في ماله، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مما يسخطه جوابا منه لمن سأل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضا، فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقة غير المفروضات ثابت الحكم غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده، فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوّع وهباته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ بِنَفْسِهِ، ثُمّ بأهْلِه، ثُمّ بِوَلَدِهِ» ثُمّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الّتِي تُرْضِي اللّهَ ويُحِبّها. وذلك هو القوام بين الإسراف والإقتار الذي ذكره الله عز وجلّ في كتابه إن شاء الله تعالى. ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه؟ وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث، فما الذي دلّ على أن ذلك منسوخ؟ فإن زعم أنه يعني بقوله: إنه منسوخ أن إخراج العفو من المال غير لازم فرضا، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة في المال قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضا، فأسقطه فرض الزكاة؟ ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضا، إذ لم يكن أمر من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جواب ما سأل عنه القوم على وجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات، ولا سبيل لمدعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادّعى.
"كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ": كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمْ الآياتِ هكذا يبين أي ما بينت لكم أعلامي وحججي، وهي آياته في هذه السورة، وعرفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور الهدى، فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحججي، وأوضحها لكم لتتفكروا في وعدي ووعيدي وثوابي وعقابي، فتجاوزوا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الاَخرة، والفوز بنعيم الأبد على القليل من اللذات، واليسير من الشهوات، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية التي من ركبها، كان معاده إليّ، ومصيره إلى ما لا قبل له به من عقابي وعذابي... يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الاَخرة وبقائها... فتعرفون فضل الاَخرة على الدنيا... فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الاَخرة.
قال الله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}. هذه الآية قد تضمنت تحريم الخمر، لو لم يَرِدْ غيرُها في تحريمها لكانت كافية مغنية؛ وذلك لقوله: {قل فيهما إثم كبير} والإثمُ كله محرم بقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} [الأعراف: 33] فأخبر أن الإثم محرمٌ، ولم يقتصر على إخباره بأن فيها إثماً حتى وصفه بأنه كبير، تأكيداً لحظرها.
وقوله: {ومنافع للناس} لا دلالة فيه على إباحتها، لأن المراد منافع الدنيا؛ وإن في سائر المحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم، إلا أن تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحقّ بارتكابها. فذِكْرُهُ لمنافعها غير دالّ على إباحتها لا سيما وقد أكّد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية: {وإثمهما أكبر من نفعهما} يعني أن ما يستحق بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي ينبغي منهما...
وقد اختُلف فيما يتناوله اسم الخمر من الأشربة، فقال الجمهور الأعظم من الفقهاء:"اسم الخمر في الحقيقة يتناول النيَّ المشتدّ من ماء العنب". وزعم فريق من أهل المدينة ومالك والشافعي أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فهو خَمْر... وإنما يسمَّى به غيرها مجازاً. والله أعلم...
أحدها: أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو العقل، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور، وتقريره أن العقل إنما سمي عقلا لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعا له من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل المانع منها، والتقريب بعد ذلك معلوم،
وثانيها: ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة
وثالثها: أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر، ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى. بخلاف سائر المعاصي، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم، بخلاف الشرب، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر، كان نشاطه أكثر، ورغبته فيه أتم. فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقا في اللذات البدنية، معرضا عن تذكر الآخرة والمعاد، حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وبالجملة فالخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: « الخمر أم الخبائث»
وأما الميسر فالإثم فيه أنه يفضي إلى العداوة، وأيضا لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضا يورث العداوة، لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجانا أبغضه جدا، وهو أيضا يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة،
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة، وقال الحكماء: الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإنفاق الكثير هو التبذير، والتقليل جدا هو التقتير، والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله: {قل العفو} ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المسامحة التامة، وشرع محمد صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه الأمور، فلذلك كان أكمل من الكل. أما قوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات} فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الشراب مما أذن فيه في ليل الصيام وكان غالب شرابهم النبيذ من التمر والزبيب وكانت بلادهم حارة فكان ربما اشتد فكان عائقاً عن العبادة لا سيما الجهاد لأن السكران لا ينتفع به في رأي ولا بطش ولم يكن ضرورياً في إقامة البدن كالطعام آخر بيانه إلى أن فرغ مما هو أولى منه بالإعلام وختم الآيات المتخللة بينه وبين آيات الإذن بما بدأها به من الجهاد ونص فيها على أن فاعل أجد الجدّ وأمهات الأطايب من الجهاد وما ذكر معه في محل الرجاء للرحمة فاقتضى الحال السؤال: هل سألوا عن أهزل الهزل وأمهات الخبائث؟ فقال معلماً بسؤالهم عنه مبيناً لما اقتضاه الحال من حلمه فيبقى ما عداه على الإباحة المحضة: {يسئلونك عن الخمر} الذي هو أحد ما غنمه عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه في سريته التي أنزلت الآيات السالفة بسببها.
قال الحرالي: وهو مما منه الخمر -بفتح الميم- وهو ما وارى من شجر ونحوه، فالخمر -بالسكون- فيما يستبطن بمنزلة الخمر -بالفتح- فيما يستظهر، كأن الخمر يواري ما بين العقل المستبصر من الإنسان وبهيميته العجماء، وهي ما أسكر من أي شراب كان سواء فيه القليل والكثير
{والميسر} قال الحرالي: اسم مقامرة كانت الجاهلية تعمل بها لقصد انتفاع الضعفاء وتحصيل ظفر المغالبة...
و [إنما] قرنهما سبحانه وتعالى لتآخيهما في الضرر بالجهاد وغيره بإذهاب المال مجاناً عن غير طيب نفس ما بين سبحانه وتعالى من المؤاخاة بينهما هنا وفي المائدة وإن كان سبحانه وتعالى اقتصر هنا على ضرر الدين وهو الإثم لأنه أسّ يتبعه كل ضرر فقال في الجواب:
{قل فيهما} أي في استعمالهما {إثم كبير} لما فيهما من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير فهذا مثبت للتحريم بإثبات الإثم ولأنهما من الكبائر.
قال الحرالي: في قراءتي الباء الموحدة والمثلثة إنباء عن مجموع الأمرين من كبر المقدار وكثرة العدد و واحد من هذين مما يصد ذا الطبع الكريم والعقل الرصين عن الإقدام عليه بل يتوقف عن الإثم الصغير القليل فكيف عن الكبير الكثير...
{ومنافع للناس} يرتكبونهما لأجلها من التجارة في الخمر واللذة بشربها، ومن أخذ المال الكثير في الميسر وانتفاع الفقراء وسلب الأموال والافتخار على الأبرام والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ودرء المفاسد مقدم فكيف {وإثمهما أكبر من نفعهما}.
وفي هذا، كما قال الحرالي، تنبيه على النظر في تفاوت الخيرين و تفاوت الشرين...
قال عبد الحق في الواعي: والميسر موضع التجزئة؛ ولما ذكر ما يذهب ضياء الروح وقوام البدن وذم النفقة فيهما اقتضى الحال السؤال عما يمدح الإنفاق فيه فقال عاطفاً على السؤال عن المقتضي لتبذير المال {ويسئلونك ماذا ينفقون} وأشعر تكرير السؤال عنها بتكرير الواردات المقتضية لذلك، فأنبأ ذلك بعظم شأنها لأنها أعظم دعائم الجهاد وساق ذلك سبحانه وتعالى على طريق العطف لأنه لما تقدم السؤال عنه والجواب في قوله:قل ما أنفقتم من خير فللوالدين}
[البقرة: 215]، منع من توقع سؤال آخر، وأما اليتامى والمحيض فلم يتقدم ما يوجب توقع السؤال عن السؤال عنهما أصلاً، وادعاء أن سبب العطف النزول جملة وسبب القطع النزول مفرقاً مع كونه غير شاف للغلة بعدم بيان الحكمة يرده ما ورد أن آخر آية نزلت {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله}
[البقرة: 281] وهي بالواو أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من وجهين في مقدمة أسباب النزول وترجم لها البخاري في الصحيح ومن تتبع أسباب النزول وجد كثيراً من ذلك.
وقال الحرالي: في العطف إنباء بتأكد التلدد مرتين كما في قصة بني إسرائيل، لكن ربما تخوفت هذه الأمة من ثالثتها فوقع ضمهم عن السؤال في الثالثة لتقاصر ما يقع في هذه الأمة عما وقع في بني إسرائيل بوجه ما، وقال سبحانه وتعالى في الجواب: {قل العفو} وهو ما سمحت به النفس من غير كلفة قال: فكأنه ألزم النفس نفقة العفو وحرضها على نفقة ما تنازع فيه ولم يلزمها ذلك لئلا يشق عليها لما يريده بهذه الأمة من اليسر، فصار المنفق على ثلاث رتب: رتبة حق مفروض لا بد منه وهي الصدقة المفروضة التي إمساكها هلكة في الدنيا والآخرة، وفي مقابلته عفو لا ينبغي الاستمساك به لسماح النفس بفساده فمن أمسكه تكلف إمساكه، وفيما بينهما ما تنازع النفس إمساكه فيقع لها المجاهدة في إنفاقه وهو متجرها الذي تشتري به الآخرة من دنياها...
وفي تخصيص المنفق بالعفو منع لمتعاطي الخمر قبل حرمتها من التصرف، إذ كان الأغلب أن تكون تصرفاته لا على هذا الوجه، لأن حالة السكر غير معتد بها والتصرف فيها يعقب في الأغلب عند الإفاقة أسفاً وكذا الميسر بل هو أغلظ. ولعل تأخير بيان أن المحثوث عليه من النفقة إنما هو الفضل إلى هذا المحل ليحمل أهل الدين الرغبة فيه مع ما كانوا فيه من الضيق على الإيثار على النفس من غير أمر به رحمة لهم، ومن أعظم الملوحات إلى ذلك أن في بعض الآيات الذاكرة له فيما سلف {وآتى المال على حبه} [البقرة: 177].
قال الأصبهاني: قال أهل التفسير: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع ينظر ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، فإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك وتصدق بالباقي حتى نزلت آية الزكاة فنسختها هذه الآية.
ولما بيّن الأحكام الماضية في هذه السورة أحسن بيان وفصل ما قص من جميع ما أراد أبدع تفصيل لا سيما أمر النفقة فإنها بينها مع أول السورة إلى هنا في أنواع من البيان على غاية الحكمة والإتقان كان موضع سؤال: هل يبين لنا ربنا غير هذا من الآيات كهذا البيان؟ فقال: {كذلك} أي مثل ما مضى من هذا البيان العلي الرتبة البعيد المنال عن منازل الأرذال {يبين الله} الذي له جميع صفات الكمال {لكم} جميع {الآيات}
قال الحرالي: فجمعها لأنها آيات من جهات مختلفات لما يرجع لأمر القلب وللنفس وللجسم ولحال المرء مع غيره... وأفرد الخطاب أولاً وجمع ثانياً إعلاماً بعظمة هذا القول للإقبال به على الرأس، وإيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ علماً من قبل هذا بحيث لا يحتاج إلى زيادة وأن هذا البيان إنما هو للأتباع يتفهمونه على مقادير أفهامهم وهممهم، ويجوز أن يكون الكلام تم بكذلك أي البيان ثم استأنف ما بعده فيكون البيان مذكوراً مرتين: مرة في خطابه تلويحاً، وأخرى في خطابهم تصريحاً؛ أو يقال: أشار إلى علو الخطاب بالإفراد وإلى عمومه بالجمع...
{لعلكم تتفكرون} أي لتكونوا على حالة يرجى لكم معها التفكر، وهو طلب الفكر وهو يد النفس التي تنال بها المعلومات كما تنال بيد الجسم المحسوسات -قاله الحرالي.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإثمهما أكبر من نفعهما} وهذا القول إرشاد للمؤمنين إلى طريق الاستدلال فكان عليهم أن يهتدوا منه إلى القاعدتين اللتين تقررتا بعد في الإسلام: قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقاعدة ترجيح ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما، ولكن لم يهتد إلى ذلك جميعهم، إذ ورد أن بعضهم ترك الخمر عند نزول الآية وبعضهم لم يترك...
[ف] ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا [يكون فيما يبدو] تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، وإنما يعمل فيه كل أحد باجتهاده فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة. ودلالة هذه الآية على تحريم الخمر والميسر ظنية ولذلك عمل فيها الصحابة باجتهادهم على اختلافهم فيه وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وبقي عمر بن الخطاب يدعو الله أن يبين للأمة في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية سورة المائدة... فترك جميع الصحابة الخمر والميسر لأن دلالتها قطعية لا مراء فيها، ولاسيما قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} (المائدة: 91) لأنه استفهام بمعنى النهي المؤكد وأما كون إثم هاتين الفعلتين أي ضررهما أكبر من نفعهما مع إثبات المنافع لهما فلا يدل على ذلك دلالة قطعية. ومضرة الخمر لا يجهلها أحد ولذلك كان في الجاهلية من حرمها على نفسه.
قال الأستاذ الإمام: إن النكتة في الجمع بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الإنفاق في آية واحدة هي المقارنة بين حال فريقين من الناس: فريق ينفق المال بغير حساب في سبيل الإثم، إما للتفاخر والتباهي فيما لا فخر فيه ولا شرف في الحقيقة، وإما لمجرد اللذة وإن ساءت عواقبها، وفريق ينفقه في سبيل الله يزيل به ضرورة إخوانه المساكين والضعفاء، ويرفع به من شأن أمته بما يجعله للمصالح العامة وأعمال الخير،
وقوله تعالى {كذلك يبين الله لكم الآيات} معناه: مثل هذا النحو وعلى هذه الطريقة من البيان قد قضت حكمة الله بأن يبين لكم آياته في الأحكام المتعلقة بمصالحكم ومنافعكم، وذلك بأن يوجه عقولكم إلى ما في الأشياء من المضار والمنافع {لعلكم تتفكرون} فيظهر لكم الضار منها أو الراجح ضرره فتعلموا أنه جدير بالترك فتتركوه على بصيرة واقتناع بأنكم فعلتم ما فيه المصلحة، كما يظهر لكم النافع فتطلبوه، فمن رحمته بكم لم يرد أن يعنتكم ويكلفكم ما لا تعقلون له فائدة إرغاما لإرادتكم وعقلكم، بل أراد بكم اليسر فعلمكم حكم الأحكام وأسرارها وهداكم إلى استعمال عقولكم فيها، لترتقوا بهدايته عقولا وأرواحا لا تنفعوه سبحانه أو ترفعوا عنه الضر، فإنه غني عنكم بنفسه، حميد بذاته، عزيز بقدرته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي السياق، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار.. وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها. يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم، وتستغرق مشاعرهم وأوقاتهم: {يسألونك عن الخمر والميسر. قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس. وإثمهما أكبر من نفعهما} وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر. ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما. إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها. وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر، ولا تناسبه بعثرة العمر، وبعثرة الوعي، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية. أمس واليوم وغدا! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة..
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم. فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا. فالخير يتلبس بالشر، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض. ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر. فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع. وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع. هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم. وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته. ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر. عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني، أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى. ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة. فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف. والعادة تحتاج إلى علاج.. فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع. وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى.. ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}.. والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله. فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها.. حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}..
ثم نمضي مع السياق في تقرير المبادئ الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية: {ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو. كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}.. لقد سألوا مرة: ماذا ينفقون؟ فكان الجواب عن النوع والجهة. فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة.. والعفو: الفضل والزيادة. فكل ما زاد على النفقة الشخصية -في غير ترف ولا مخيلة- فهو محل للإنفاق. الأقرب فالأقرب. ثم الآخرون على ما أسلفنا.. والزكاة وحدها لا تجزئ. فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى: فالزكاة لا تبريء الذمة إلا بإسقاط الفريضة. ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائما. إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله، وتنفقها في مصارفها المعلومة، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله. والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام:"في المال حق سوى الزكاة".. حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله -وهذا هو الأكمل والأجمل- فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة. كي لا يضيع في الترف المفسد. أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل.
{كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}... ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظا لكل فرد. وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء، وما فيها من قيم وموازين، مرجحا لكفة الإنفاق، تطمئن إليه النفس، وتسكن له وتستريح. ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر... وقد تناسقت في هذه الآية. وصف الله الخمر بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع. والإثم: معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضى الله، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف: الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في الشرع، فهو ضد القربة فيكون معنى {فيهما إثم كبير} أنهما يتسبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحال الربح والخسارة من التشاجر.
وإطلاق الكبير على الإثم مجاز، لأنه ليس من الأجسام، فالمراد من الكبير: الشديد في نوعه كما تقدم آنفاً. وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة، والمراد في استعمالهما المعتاد. واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة.
والمنافع: جمع منفعة، وهي اسم على وزن مَفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً قصد منه قوة النفع، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبنى. ويحتمل أن يكون اسم مكان دالاً على كثرة ما فيه كقولهم مَسْبَعة ومَقْبَرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مَصْلَحة ومَفْسَدة، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع.
والميسر: اسم جنس على وزن مَفْعِل مشتق من اليُسر، وهو ضد العسر والشدة، أو من اليسار وهو ضد الإعسار، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يَسر يَيْسِر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المَحْل وكَلَب الشِّتَاء،
والناس مراد به العموم لاختلاف المنافع، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة (في) المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتقع بالخمر والميسر، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى: {فيه شفاء للناس} [النحل: 69]. وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال: {وأنهار من خمر لذة للشاربين} [محمد: 15].
فإن قلت: ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء، لأن الله جعل هذا الدين ديناً دائماً وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرِّعون لمختلف ومتجددِ الحوادث، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} [الحجرات: 12] ونحو ذلك،
وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلاَّ صلاحَهم دون نكايتهم كقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] وقوله: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183].
وهنالك أيضاً فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} [البقرة: 187]. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلاً مع سؤالهم {ماذا ينفقون}، فعطفت الآية التي فيها جَوابُ سؤالهم {ماذا ينفقون} على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل {يسألونك} بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها.
ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق. ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف.
والعفو: مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَى قال تعالى: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا} [الأعراف: 95]، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله، فالمعنى أن المرء ليس مطالباً بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني،
وآل في العفو للجنس المعروف للسامعين، والعفو مقول عليه بالتشكيك؛ لأنه يتبع تعيينَ ما يحتاجه المنفق والناسُ في ذلك متفاوتون، وجعل الله العفو كلَّه منفقاً ترغيباً في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذَر، إذ كان يرى كنز المال حراماً وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة،
وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى قوله يكون (أل) في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب.
وقوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات}، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبيِّن لنوع {يُبَيِّن}، وقد تقدم القول في وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143]. أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} إلى قوله {العفو}، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيماً لشأن المشار إليه لكماله في البيان، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس، وحتى يلحقوا به نظائره، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله: {يبين الله لكم}.
واللام في {لكم} للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين. وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله:
{لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة،
فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله {والآخرة} إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل: قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له: « الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ».
ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أسئلة ثلاثة وإجابتها، وكلها يتصل بإصلاح المجتمع، وتقوية بنيانه، وكل واحد منها يتجه إلى ناحية إصلاحية، وكلها يتلاقى نحو مقصد واحد، وهو إقامة بناء المجتمع على دعائم من الفضيلة والمودة والتعاون على الخير، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وقد جاءت هذه المعاني الإصلاحية التي توثق الوحدة، وتقوي الروابط بعد الأمر بالجهاد مع بعض أحكام القتال، لأن القتال حماية للدولة من أن يلتهمها العدو الخارجي، والإصلاح في هذه المسائل الثلاث يتناول حماية الأمة من أن تأكلها نيران العدو الداخلي، وهو التنابذ، وأن تنظر كل طائفة للأخرى نظر العدو المترصد، لا نظر العضو المتعاون والأخ المتودد، ولأن الوحدة الداخلية والاتحاد المكين عدة القتال، وذخيرة الحرب، فقوة الحرب تستمد من السلم، ولأن مقصد الإسلام الأسمى هو إيجاد جماعة متآخية متحابة على أسس من الفضيلة والخلق الكريم، ولكنه ما إن دعا بدعايته، حتى خرج عليه إخوان الشيطان يحاولون أن يبيدوه وأن يقضوا عليه في مهده، وفتن المسلمون في دينهم، وعذبوا في إيمانهم عذابا شديدا فأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وساروا على سنة الوجود، وهو أن يدافعوا ذلك العدو المعتدي الذي يريد الفتك بهم، حتى إذا دفعوه وأمنوا شره، أو فلوا قوته، وخضدوا شوكته، اتجهوا إلى إقامة مدينتهم الفاضلة، وإرساء قواعدها وحققوا بهذا القصد الأول، ومكنوا لأنفسهم وأعدوا بالفضائل عدة أقوى لمنازلة الأعداء.
و قد ابتدأ القرآن الكريم في إصلاح المجتمع الإسلامي بهذه المسائل والإجابة عنها، لأنها هي التي تنفي الأذى وتدفع الخطر الاجتماعي. ومن المقرر عند علماء الإسلام أن التخلية مقدمة على التحلية، أي أن نفي الإثم مقدم على جلب النفع، وأن دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة، إذ إنه لا منفعة مع أن الفساد يشيع، والداء يستشري، والأذى يستمكن، ومثل الجماعة في علاجها من أدوائها، كمثل الجسم الإنساني في علاجه من أمراضه، فإن الطبيب النطاسي لا يبادر بتقوية الجسم ويترك الجراثيم تفتك به بل يجتهد أولا وبالذات في محاربة هذه الجراثيم والقضاء عليها، ثم يقوي الجسم، وإن عمد إلى التقوية في أثناء العلاج فلتقوى المقاومة، ولتزداد الحصانة، ولتشتد المناعة، وغرضه الأول محاربة الآفات، وكذلك الأمر في إصلاح الأمم: يبتدئ بإماطة الأذى الذي يفتك بها، ثم يثني بأعمال الإنشاء، التي تقيم البناء.
و... هذه الأسئلة الثلاثة – هي: السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن مقدار ما ينفق والسؤال عن اليتامى وإصلاحهم.
الإثم في أصل معناه: اسم لكل فعل معوق مبطئ لا يوصل للأغراض والنتائج، ثم أطلق في لغة القرآن على أفعال الشر، لأن الشر يعوق الإنسان عن الوصول إلى الغاية الإنسانية الكاملة، ويبطئ عن الوصول إلى الثواب في الآخرة. و قد تطلق كلمة إثم في لغة القرآن الكريم ويراد منه العذاب والعقاب ومن ذلك قوله تعالى:
{...و من يفعل ذلك يلق أثاما 68} (الفرقان). و المراد من الإثم في الآية الكريمة ما يقابل النفع وهو الضرر. وفي الحقيقة أن الخمر فيها ضرر لا شك في ذلك، وضررها أكبر من نفعها بلا ريب، وحسبها ضررا أمران لا شك في وجودهما، ولا ريب في أنهما يترتبان عليها:
أولهما – إضعاف صوت الضمير، ولا شيء يضر في الاجتماع أكثر من صوت الضمير وإضعافه، لأن الخلق الاجتماعي الذي يترتب عليه الإلف، والائتلاف بين الناس أساسه الحياء، والإحساس بسلطان الجماعة لائمة ومهذبة، وتبادل الشعور بينه وبين غيره، ثم النفس اللوامة، وإن الكأس تذهب بكل هذا: تذهب بالحياء والحياء خير كله، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، ويندفع الشخص في مخالفة الجماعة غير هياب ولا وجل، وكثيرا ما يكون القصد الأول من الشرب خرق حجاب الحياء، لينطلق بالقول والفعل بما لا يليق. و إن ذلك الأمر يعم كل شارب، سواء أكان ممن تقرب سكرتهم، أم كان ممن تبعد، وسواء أكان المقدار قليلا، أم كان كثيرا، فلا يكاد يكون شارب بعد شربه في حيائه الذي كان عليه من قبل، وفي قوة وجدانه وضميره التي كانت له قبل أن يتناول ذلك السم الخلقي الذي يفتك بالأخلاق الفضيلة، ولذلك سميت الخمر بحق أم الخبائث، لأنها بعد تناولها تسهل كل خبيثة كانت مستعصية لا تقبلها النفس ويعافها الشارب.
[و] ثاني الأمرين اللذين يترتبان عن الشرب بلا مراء: ذهاب الرشد، أو إضعاف الإدراك ووزن الأمور وزنا صحيحا، وإنا والله لنعجب لأولئك الذين يرضون الضلال بدل الرشد، والغفلة بدل الصحو، وقد كان في الجاهلية رجال عافوا ذلك، ولم يرتضوه لأنفسهم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
الربع الثاني من الحزب الرابع في المصحف الكريم في هذا الربع من سورة البقرة، يتناول القرآن الكريم عدة موضوعات في غاية الأهمية، بالنسبة للأسرة المسلمة والمجتمع الإسلامي، فمن أحكام تتعلق بالحياة الزوجية العادية، وما قد ينشأ في طريقها من العوائق الطبيعية أو العارضة، كما تتعلق بكفالة اليتامى وحضانتهم، ومن أحكام تتعلق بحلف الأيمان المقصود منها وغير المقصود، ومن أحكام تتعلق بخطبة النساء، وأخرى تتعلق بأمر الزواج بين المسلم وغير المسلمة، وبين المسلمة وغير المسلم، ومن أحكام تتعلق بالخمر والميسر، وحرص الإسلام على تطهير المجتمع الإسلامي منهما ومن آثامهما وآثارهما...
وأول آية تواجهنا في هذا الربع من سورة البقرة قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثمهما أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}. فقد أحس المسلمون بفطرتهم السليمة، التي أزال الإسلام عنها غشاوة الجاهلية أن الخمر والميسر لم يعد لهما مكان ولا معنى في المجتمع الإسلامي الناشئ وأنهما قد فقدا كل مبرر كان يبررهما من تقاليد الجاهلية، الفاسدة، ونخوتها الكاذبة، وفوضاها الاجتماعية، وروحها الإباحية، فالإسلام كما يحس ويشعر به كل مسلم يتلقى كلام الله من فم رسول الله غضا طريا بمجرد ما يوحى إليه، ليس دين لهو، ولا ملة عبث، ولا شريعة فوضى وإباحية، والمسلمون الذين يعدهم الحق سبحانه وتعالى لحمل الأمانة إلى كافة البشر أخذوا يدركون من تلقاء أنفسهم أنه لا يناسب مقامهم، ولا ينسجم مع رسالتهم-وهم شهداء على الناس جميعا- أن يكونوا سكارى معربدين، ولا مقامرين مغامرين، ولذلك وجه المسلمون السؤال إلى رسول الله عن الخمر والميسر، اقتناعا مسبقا منهم بأن طبيعة الإسلام ورسالة الإسلام لا تتفقان معهما في شيء، وكان الجواب هو ما تقتضيه حكمة التربية الإلهية التدريجية التي درج عليها الإسلام، بتوجيه من الله، في تربية المسلمين، وتنظيم حياتهم اليومية مرحلة بعد مرحلة: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}. فلم ينكر الجواب أن يكون لفريق من الناس منفعة خاصة في تجارة الخمر وترويجها، وفي مغامرة القمار وتنظيمه، إذ الواقع في حياة الناس يؤكد هذا المعنى، وإن كان معنى أنانيا ماديا صرفا لا أساس له من الدين ولا من الأخلاق...
غير أن كتاب الله طبع على الخمر والميسر بطابع (الإثم) الذي يتحاشاه كل مسلم ولا يرضاه، وبطابع (الإثم الكبير) الذي هو أخطر وأفحش من الإثم اليسير... وبديهي لمن عرف فطرة الإسلام وتملى من روحه أن ما غلب جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة كان حريا بالتحريم، كما أنه من البديهي أن المؤمن بالله يتحرى ما فيه الأجر والثواب لا ما فيه العقاب والتأثيم، وبذلك كان الجواب في شأن الخمر والميسر ضدهما لا في صالحهما، وإنذارا لمن لا يزال مبتلى بالإدمان عليهما، بقرب أجل تحريمهما تحريما صريحا لا رجعة فيه، وذلك عندما ينزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ والأنصَابُ والأزلاَمُ رِجسٌ مِّن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ}. وقد أثبتت الأيام صدق نظر الإسلام، فأجمع علماء الطب، وعلماء الاقتصاد، وعلماء الاجتماع، الجديرون بحمل هذه الصفة، على أن الخمر والميسر لهما من الآثار الفاسدة على حياة الأفراد والجماعات ما يعتبران معه من أكبر أعداء الإنسانية، ومن أعظم عوامل التخريب والتدمير للحضارة والمدنية، وقد تكونت لمحاربتهما في مختلف البلدان ومن مختلف الملل والنحل عدة هيآت دولية، ونادت بمكافحتهما منظمة الصحة العالمية نفسها، وكان الإسلام هو الرائد الأول للجميع في هذا الميدان الاجتماعي الإصلاحي الخطير كشأنه في بقية الميادين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
القرآن والتصدّي لقضايا الواقع:
في هاتين الآيتين معالجة لعدّة قضايا دار الحوار حولها بين المسلمين وبين النبيّ (ص) في بعض الأمور التشريعية مما كان يُبتلى به النّاس؛ فقد سألوا عن الخمر والميسر، وهما من العادات المتأصلة الجذور في حياة النّاس آنذاك، ما يجعل من تحريمهما، أو الاتجاه نحوه، مشكلةً اجتماعيةً صعبةً. وكانوا يعتقدون، أو يخيّل إليهم، أنَّ التحريم لا يخضع لمصلحة النّاس الحياتية،
طريقة القرآن في إثارة القضايا:
حاول القرآن الكريم في جوابه عن ذلك أن لا يتنكر لهذه التصوّرات، ولا يتعسّف في توجيه الحكم الشرعي إليهم، فبدأ بإثارة الجوانب السلبية بإزاء الجوانب الإيجابية ليفكروا فيها بهدوء، ليتحقّق لهم التوازن في تصوّرهم للأشياء وحكمهم عليها، لأنَّ ذلك هو السبيل القويم في سلامة المعرفة من الانحراف تحت ضغط العادة أو المنفعة أو الشهوة؛ وذلك هو قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّه وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّه إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّه أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النّاس لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 94] فإنه يضع أمامهم التأثيرات السلبية في الحياة الاجتماعية العامة والخاصة، وفي الحياة الروحية التي يعيش فيها النّاس مع اللّه في لحظة العبادة والتأمّل، لأنَّ الخمر يذهب بالعقل، فيتصرّف الإنسان معها بفعل الغريزة التي تجمع الأحقاد وتفجّرها في طريقةٍ لاشعورية؛ بينما يساهم القمار في شعور الخاسر بالحقد تجاه الرابح، لأنه قد أخذ منه ماله دون مقابل.
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، يشارك الخمر والقمار من خلال الإدمان عليهما، في إبعاد الإنسان عن الذكر وعن الصلاة، وعلى هذا وجّه القرآن الكريم سؤالاً، يقصد منه الاستنكار وطلب الكف عن هاتين العادتين بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] كإيحاء خفيّ بأنَّ العاقل هو الذي يبادر بنفسه، من دون حاجة إلى تعليمات خارجية، لترك ما يفسد عليه أمر حياته وقضية مصيره.
القرآن والموازنة بين الإيجابيات والسلبيات:
ثُمَّ أراد القرآن الكريم أن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات، فيحضرهما في وعي النّاس في البداية، ثُمَّ يرشدهم إلى الحقيقة الموضوعية، وهي زيادة نسبة الجوانب السلبية في ممارستهما على الجوانب الإيجابية؛ ويترك للعقل الواعي عملية استخلاص النتيجة التي ستكون إلى جهة التحريم، لأنَّ العقل لا يقبل للإنسان أن يرتكب الفعل الذي يضره بنسبة كبيرة، لتحصيل منفعة ليست بذاك المستوى من الأهمية. أمّا كيف ذلك؟
إننا قد نجد إلى جانب منفعة الخمر والقمار مفاسد لا تمثّل المنفعة القليلة معها شيئاً، ليضع القرآن النّاس أمام الحقيقة الكبيرة التي غفلوا عنها، تماماً كما يفعل الذين يتذوّقون حلاوة السم، فينشغلون بلذّة الحلاوة عمّا في السم من خطرٍ مميتٍ على الحياة. ثُمَّ يوحي من خلال ذلك إليهم، بأنَّ التشريع، في ما يخطّط من تحريم وتحليل، لا ينطلق من نقطة العبث والالتذاذ بتقييد حرية الآخرين، بل تبدأ انطلاقته وتنتهي في حدود مصلحة الإنسان الخاصة والعامة. فلا تحريم إلاَّ عندما تكون المفسدة أقوى من المصلحة، ولا تحليل إلاَّ عندما تكون القضية على العكس، سواء في ذلك ما اعتاده النّاس وما لم يعتادوه، لأنَّ الحرية في التشريع الإلهي ليست مزاجية تخضع لانفعالات المزاج في حالات اللذة والألم، بل هي واقعية أساسية تخضع للمصالح والمفاسد الحيوية للإنسان في حركة الحياة وقاعدتها الرئيسية. وعلى ضوء ذلك، فإنَّ القرآن لم يزد شيئاً على تقرير هذه الحقيقة الواقعية في الخمر والميسر، فلم يقل لهم ما يجب عليهم أن يفعلوه، بل ترك الأمر للإحساس الفكري الصافي ببداهة النتيجة التشريعية التي تلتقي بالحكم الإسلامي الحاسم بتحريم الخمر والقمار بشكل أساسي ونهائي،
[و] في هذه الآية الكريمة. {يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} هل للإسلام موقف محدّد...؟ وهل هذا الموقف سلبي ينطلق في خطّ التحريم، أو إيجابي، في خطّ التحليل؟ لأنَّ هناك عادة عامة في أوساط النّاس في الأخذ بهما، في الوقت الذي يتحسسون حدوث أكثر من مشكلة اجتماعية منها،
{قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} فهما يختزنان في خصوصياتهما الذاتية معنى الذنب، في مضمونه الذي يوحي بالنتائج السيئة التي تؤدي إلى فساد في العقل أو في المال يعطّل الوضع الطبيعي المتوازن في الحياة، من خلال الضرر الذي يحدثه في واقع الإنسان في التعقيدات السلبية التي تصيب روحه وعقله، فتقعد به عن الحصول على النمو العقلي والروحي والتوازن في حركته في الحياة. وفي ضوء ذلك، فإنَّ كلمة الإثم تختزن في داخلها معنى الضرر. والظاهر أنَّ المراد بها الضرر الدنيوي لا الأخروي، لأنه تابع للتحريم الذي تستوجب مخالفته العقاب في الآخرة. وهذا ما لم يكن معهوداً قبل الآية، ليتحدّث اللّه عنه كشيءٍ وجداني معلوم للنّاس في ذهنيتهم الشرعية، لأنَّ الغرض أنهم في موقع السؤال عن التحريم كموقف إسلامي، الأمر الذي يجعل الضرر الأخروي نتيجة للآية، لا تحليلاً للمسألة وتقريباً للصورة.
وإذا كانت المضارّ أكبر من المنافع، فمن الطبيعي أن يحرّمهما اللّه، ولا يمكن له أن يحللهما، من خلال لطفه بعباده الذي يقرّبهم إلى ما يصلح أمرهم في الحياة، ويبعدهم عمّا يفسدها في أوضاعهم العامة والخاصة، لأنَّ التشريع وسيلة من الوسائل لإدخال الإنسان في ما يحبّه اللّه من الخير وإبعاده عمّا يبغضه من الشر، ويتصل بالسلامة العقلية والروحية والجسدية للإنسان على الصعيد الفردي والاجتماعي، فالشريعة هي عناوين المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال الإنسان، فلا يأمر اللّه إلاَّ بما فيه صلاح الإنسان، ولا ينهى إلاَّ عمّا فيه فساد حياته. وفي ضوء ذلك، نستفيد من هذه الفقرة، أنَّ اللّه سبحانه، أراد بيان التحريم بهذه الطريقة، انطلاقاً من الارتكاز العقلائي الذي يتحرّك تلقائياً لتقرير النتيجة من خلال هذه القاعدة بتحريم ما يتمثّل فيه ذلك في حركة الواقع أو في خصائصه الذاتية. إنَّ الآية توحي بالتحريم ولكنَّها لا تدل عليه بشكل صريح، فهي أسلوب تربوي من أساليب إعداد النفس لتقبل التحريم، بإثارة الأجواء الفكرية الداخلية للانفتاح عليه، كما لو كان أمراً طبيعياً يختاره الإنسان بنفسه.
{كَذلِكَ يُبيِّنُ اللّه لَكُمُ الآيَاتِ} الدالة على حقائق الأشياء مما يتعلّق بالتشريع في مسؤولياتكم العامة والخاصة، فتتعرفون حكمة اللّه في تشريعاته في أقوالكم وأفعالكم، ليظهر لكم كيف يريد صلاحكم. كما يبين لكم الآيات المنتشرة في الكون في كلّ مخلوقاته الجامدة والنامية والحيّة التي تكشف لكم عن عظمة الإبداع وسرّ الخلقة،
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} وتهتدون بالفكر المتحرّك الباحث عن كلّ حقيقة في الأرض وفي السَّماء وفي الحياة والإنسان، فتحصلون على الثقافة العلمية التي تنمّي مدارككم وفهمكم وانفتاحكم على حقائق العقيدة والإيمان،
{فِي الدُّنْيَا} لتعرفوا كيف هي الدنيا في نطاق مسؤولياتكم من حيث هي دار ممر لا دار مقر، وساحة عمل لا ساحة لهو وعبث، ومزرعة للآخرة لا غاية في ذاتها، لتتحرّكوا فيها في ما تفعلون وتتركون في هذا الاتجاه لتحقيق تلك الغاية.
{وَالآخِرَةِ} التي هي دار الحيوان والخلود، فسعادتها هي السعادة وشقاؤها هو الشقاء، فلا بُدَّ لكم من الاستعداد لها لتواجهوا نتائج المسؤولية بين يدي اللّه. وهذا هو الإيحاء الإيماني الدائم، الذي يوحي به اللّه للإنسان، ليكون على وعي دائم لنفسه ولحركته في الحياة في الدنيا والآخرة، بعيداً عن أية حالة غفلة؟؟و نسيان. وهناك نقطة ثانية لا بُدَّ من الانتباه إليها، وهي أنَّ الدعوة إلى التفكير التي تشمل العمل على أساس الوصول إلى معرفة حكمة التشريع وعلل الأحكام، توحي بأنَّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يبتعد عن السعي للتعرّف على المفاهيم الإسلامية والعقائد الإيمانية والأحكام الشرعية، وذلك كي يصل إلى حقائقها وأسرارها بالفكر العميق، ليزداد بذلك إيماناً وهدى، فلا يكلف الإنسان الإنفاق من ضرورياته المعاشية، بل يكفيه في إطاعة هذا التشريع أن ينفق مما يزيد عن حاجاته الأساسية، وبذلك كان الإسلام منسجماً مع الطبيعة البشرية التي قد لا تستجيب للإيثار دائماً، وإن كانت قد تسير معه في بعض مراحل الحياة. وقد كان ختام الآية دعوة للتفكير في آيات اللّه التي يبينها للإنسان، ليفكر فيها فيهتدي بها إلى سواء السبيل.