الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أولم ير الذين كفروا}: أولم يعلم الذين كفروا من أهل مكة {أن السماوات والأرض كانتا رتقا} يعني: ملتزقين... فأبان إحداهما من الأخرى، فذلك قوله: {ففتقناهما}.

ثم قال سبحانه {وجعلنا من الماء كل شيء حي} يقول: وجعلنا الماء حياة كل شيء يشرب الماء {أفلا يؤمنون}، يقول: أفلا يصدقون بتوحيد الله عز وجل مما يرون من صنعه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء الذي كفروا بالله بأبصار قلوبهم، فيروا بها، ويعلموا أن السموات والأرض كانتا "رَتْقا": يقول: ليس فيهما ثقب، بل كانتا ملتصقتين، يقال منه: رتق فلان الفتق: إذا شدّه...

وقوله: "فَفَتَقْناهُما "يقول: فصدعناهما وفرجناهما.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى وصف الله السموات والأرض بالرتق، وكيف كان الرتق، وبأيّ معنى فتق؟

فقال بعضهم: عَنَى بذلك أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما بالهواء...

وقال آخرون: بل معنى ذلك أن السموات كانت مرتتقة طبقة، ففتقها الله فجعلها سبع سموات. وكذلك الأرض كانت كذلك مرتتقة، ففتقها فجعلها سبع أرضين... وقال آخرون: بل عُني بذلك أن السموات كانت رتقا لا تمطر والأرض كذلك رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات... عن عكرمة: "أوَ لَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوا أنّ السّمَوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما" قال: كانتا رتقا لا يخرج منهما شيء، ففتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات. قال: وهو قوله: والسّماءِ ذَاتِ الرّجْعِ والأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ...

وقال آخرون: إنما قيل "فَفَتَقْناهُما" لأن الليل كان قبل النهار، ففتق النهار... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أو لم ير الذي كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: "وجَعَلْنا مِنَ الماءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ" على ذلك، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه...

وقوله: "أفَلا يُؤْمِنُون" يقول: أفلا يصدّقون بذلك، ويقرّون بألوهة من فعل ذلك ويفردونه بالعبادة؟

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما}؟ قوله: {أولم ير} يخرج على وجوه:

أحدها: أن اعلموا، وروا أن السماوات والأرض كانتا كذا.

والثاني: لو تفكروا، وتأملوا، لعلموا أنها كذا.

والثالث: على التنبيه: أن قد رأوا وعلموا أنهما كانتا كذا. وكذلك هذا في كل ما ذكر من قوله: {أولم تروا} إلى كذا، فهو كله يخرج على هذه الوجوه.

ثم يكون قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون} {وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهو عن آياتها معرضون} {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 30 إلى 33] كل هذا كان في قوله: {أولم ير الذين كفروا} كأنه يقول: أولم يروا كذا؟ [أو لم يروا ما جعلنا لهم] من أنواع ما ذكر.

ثم ذكر ذلك لهم يكون لوجوه.

أحدها: أن يذكر نعمه عليهم حين أخبر أن السماوات والأرض كانتا رتقا، ففتق منهما أرزاقهم.

والثاني ذكرهم أنه جعل بالماء حياتهم، وجعل لهم الأرض بحيث تقر بأهلها، وتسكن بهم، وجعلها مهادا لهم وفراشا بالجبال حتى قدروا على المقام بها والقرار.

والثالث: أنه جعل فيها فجاجا سبلا ليصلوا إلى حوائجهم وشهواتهم ومنافعهم التي جعلت لهم في البلاد النائية.

والرابع: أنه ذكرهم نعمه أيضا في حفظ السماء عن أن تسقط عليهم على ما أخبر أنه يمسكها هو بقوله: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41].

[والخامس:] ذكرهم أيضا نعمه في ما جعل لهم من الليل والنهار وفي الشمس والقمر من المنافع، يستأدي بذلك كله الشكر على ما أنعم عليهم أو تذكرهم بهذا قدرته وسلطانه، إذ من قدر على فتق السماء والأرض وجعل حياة كل شيء في الماء، وإمساك السماء وحفظها عن أن تسقط بلا عمد، وما ذكر من خلق الليل والنهار... إن من قدر على كل ما ذكر لقادر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت وبعدما صاروا ترابا.

والسادس: أن يذكرهم غناه بذاته وملكه. إن من كان هذا سبيله فأنى تقع له الحاجة إلى اتخاذ الولد أو الشريك أو الصاحبة ردا على ما قالوا: {اتخذ الرحمان ولدا} [الأنبياء: 26] وما {اتخذوا من دونه آلهة} [الأنبياء: 24] ونحوه؟

وبين فساد ذلك كله وبطلانه حين قال: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] وقال: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون} [الأنبياء: 21] ونحوه. يبين بهذا كله فساد ما ادعوا على الله أنه اتخذ كذا.

ثم اختلف في قوله: {كانتا رتقا} قال بعضهم: فتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات. فتق السماء، وهي أشد الأشياء وأصلبها، بألين شيء، وهو الماء. وكذلك الأرض فتقها بألين شيء، وهو النبات مع شدتها وصلابتها، وهو ما ذكر من لطفه وقدرته...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {كانتا رتقاً ففتقناهما} فقالت فرقة: كانت السماء ملتصقة بعضها ببعض، والأرضون كذلك،ففتقهما الله تعالى سبعاً سبعاً، وعلى هذين القولين ف «الرؤية» الموقف عليها رؤية القلب، وقالت فرقة: السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق، ففتقهما تعالى بالمطر والنبات، كما قال الله تعالى {والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع} [الطارق: 11-12] وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين، ويناسب قوله {وجعلنا من الماء كل شيء حي} أي من الماء الذي أوجده الفتق فيظهر معنى الآية ويتوجه الاعتبار،...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{أفلا يؤمنون} استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك، وأطلق الإيمان على سببه، وقد انتظمت هذه الآية دليلين من دلائل التوحيد وهي من الأدلة السماوية والأرضية.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أنكر سبحانه اتخاذهم آلهة من دونه تارة بقيد كونها أرضية، وتارة بقيد كونها سماوية، وتارة مطلقة، لتعم كلا من القسمين وغيرهما، واستدل على ذلك كله بما لم تبق معه شبهة، فدل تفرده على أنه لا مانع له مما يريد من بعث ولا غيره، وكان علمهم لا يتجاوز ما في السماوات والأرض، قال مستدلاً على ذلك أيضاً مقرراً بما يعلمونه، أو ينبغي أن يسألوا عنه حتى يعلموه لتمكنهم من ذلك {فاسألوا أهل الذكر} جالياً له في أسلوب العظمة: {أولم} أي ألم يعلموا ذلك بما أوضحنا من أدلته ولم يروا، ولكنه أظهر للدلالة على أنهم يغطون أنوار الدلائل عناداً فقال: {ير} أي يعلم علماً هو كالمشاهدة {الذين كفروا} أي ستروا ما يعلمون من قدرة الله فأدى ذلك إلى الاستهانة والتنقص فصار ذنبهم غير مغفور، وسعيهم غير مشكور، وحذف ابن كثير الواو العاطفة على ما قدرته مما هدى إليه السياق أيضاً، لا للاستفهام بما دل عليه ختام الآية التي قبل من البعث والجزاء المقتضي للإنكار على من أنكره، فكان المعنى على قراءته: نجزي كل ظالم بعد البعث، ألم ير المنكرون لذلك قدرتنا عليه بما أبدعنا من الخلائق، وإنما أنكر عليهم عدم الرؤية بسبب أن الأجسام وإن تباينت لا ينفصل بعضها عن بعض إلا بقادر يفصل بينها، فمن البديهي الاستحالة أن يرتفع شيء منها عن الآخر منفصلاً عنه بغير رافع لا سيما إذا كان المرتفع ثابتاً من غير عماد، فكيف وهو عظيم الجسم كبير الجرم؟ وذلك دال على تمام القدرة والاختيار والتنزه عن كل شائبة نقص من مكافئ وغيره، فصح الإنكار عليهم في عدم علم ذلك بسبب أنهم عملوا بخلاف ما يعلمونه} أن السماوات والأرض. {

ولما كان المراد الإخبار عن الجماعتين لا عن الأفراد قال} كانتا {ولما كان المراد شدة الاتصال والتلاحم، أخبر عن ذلك بمصدر مفرد وضع موضع الاسم فقال: {رتقاً} أي ملتزقتين زبدة واحدة على وجه الماء، والرتق في اللغة: السد، والفتق: الشق {ففتقناهما} أي بعظمتنا أي بأن ميزنا إحداهما عن الأخرى بعد التكوين المتقن وفتقنا السماء بالمطر، والأرض بأنواع النبات بعد أن لم يكن شيء من ذلك، ولا كان مقدوراً على شيء منه لأحد غيرنا؛ ...

ولما كان خلق الماء سابقاً على خلق السماوات والأرض، قال: {وجعلنا} أي بما اقتضته عظمتنا {من الماء} أي الهامر ثم الدافق {كل شيء حي} مجازاً من النبات وحقيقة من الحيوان...

ولما كان هذا من تصرفه في هذين الكونين ظاهراً ومنتجاً لأنهما وكل ما فيهما ومن فيهما بصفة العجز عن أن يكون له تصرف ما، تسبب عنه إنكار عدم إيمانهم فقال: {أفلا يؤمنون} أي بأن شيئاً منهما أو فيهما لا يصلح للإلهية، لا على وجه الشركة ولا على وجه الانفراد، وبأن صانعهما ومبدع النامي من حيوان ونبات منهما بواسطة الماء قادر على البعث للحساب للثواب أو العقاب، بعد أن صار الميت تراباً بماء يسببه لذلك.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنها جولة في الكون المعروض للأنظار، والقلوب غافلة عن آياته الكبار، وفيها ما يحير اللب حين يتأمله بالبصيرة المفتوحة والقلب الواعي والحس اليقظ. وتقريره أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقتا، مسألة جديرة بالتأمل، كلما تقدمت النظريات الفلكية في محاولة تفسير الظواهر الكونية، فحامت حول هذه الحقيقة التي أوردها القرآن الكريم منذ أكثر من ثلاث مائة وألف عام. فالنظرية القائمة اليوم هي أن المجموعات النجمية -كالمجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس وتوابعها ومنها الأرض والقمر.. كانت سديما. ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت.. ولكن هذه ليست سوى نظرية فلكية. تقوم اليوم وقد تنقض غدا. وتقوم نظرية أخرى تصلح لتفسير الظواهر الكونية بفرض آخر يتحول إلى نظرية.. ونحن- أصحاب هذه العقيدة -لا نحاول أن نحمل النص القرآني المستيقن على نظرية غير مستيقنة، تقبل اليوم وترفض غدا. لذلك لا نحاول في هذه الظلال أن نوفق بين النصوص القرآنية والنظريات التي تسمى علمية. وهي شيء آخر غير الحقائق العلمية الثابتة القابلة للتجربة كتمدد المعادن بالحرارة وتحول الماء بخارا وتجمده بالبرودة.. إلى آخر هذا النوع من الحقائق العلمية. وهي شيء آخر غير النظريات العلمية...

إن القرآن ليس كتاب نظريات علمية ولم يجيء ليكون علما تجريبيا كذلك. إنما هو منهج للحياة كلها. منهج لتقويم العقل ليعمل وينطلق في حدوده. ولتقويم المجتمع ليسمح للعقل بالعمل والانطلاق. دون أن يدخل في جزئيات وتفصيليات علمية بحتة. فهذا متروك للعقل بعد تقويمه وإطلاق سراحه. وقد يشير القرآن أحيانا إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا: (أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن. وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض. أو فتق السماوات عن الأرض. ونتقبل النظريات الفلكية التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن. ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية، ولا نطلب تصديقا للقرآن في نظريات البشر. وهو حقيقة مستيقنة!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والرؤيةُ تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية. والاستفهام صالح لأن يتوجه إلى كلتيهما لأن إهمال النظر في المشاهدات الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار، وإنكار أعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال جديرٌ أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار كما سنفصله.

والرَّتق: الاتصال والتلاصق بين أجزاء الشيء.

والفَتق: ضده، وهو الانفصال والتباعد بين الأجزاء.

والإخبار عن السماوات والأرض بأنهما رَتق إخبار بالمصدر للمبالغة في حصول الصفة...

{وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}

زيادة استدلال بما هو أظهر لرؤية الأبصار وفيه عبرة للناس في أكثر أحواله. وهو عبرة للمتأملين في دقائقه في تكوين الحيوان من الرطوبات. وهي تكوين التناسل وتكوين جميع الحيوان فإنه لا يتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

فإذا أخبرك الله بشيء فإخبار الله أصدق من رؤية العين، فالعين يمكن أن تخدعك، أو ترى بها دون أن تتأمل. أما إخبار الله لك فصادق لا خداع فيه. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83)} (مريم)...

والعلماء ساعة يستقبلون الآية الكونية لهم فيها مذاهب اجتهادية مختلفة؛ لأنها تتعرض لحقيقة الكون، وهذا أمر قابل للخلاف، فكل واحد منهم يأخذ منه على قدر ثقافته وعلمه. والقرآن بالدرجة الأولى كتاب منهج (افعل كذا) و (لا تفعل كذا) لذلك كل ما يتعلق بهذا المنهج جاء واضحا لا غموض فيه، أما الأمور الكونية التي تخضع لثقافات البشر وارتقاءاتهم الحضارية فقد جاءت مجملة تنتظر العقول المفكرة التي تكشف عن هذه الظواهر واحدة بعد الأخرى، وكأن الحق – تبارك وتعالى – يعطينا مجرد إشارة، وعلى العقول المتأملة أن تكمل هذه المنظومة.

وقد كان لعلماء الإسلام موقفان في هذه المسألة، كلاهما ينطلق من الحب لدين الله، والغرام بكتابه، والرغبة الصادقة في إثبات صدق ما جاء به القرآن من آيات كونية جاء العلم الحديث ليقول بها الآن، وقد نزل بها القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.

الموقف الأول: وكان أصحابه مولعين بأن يجدوا لكل اكتشاف جديد شاهدا من القرآن ليقولوا: إن القرآن سبق إليه وأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق في بلاغه عن الله. الموقف الثاني: أما أصحاب الموقف الآخر فكانوا يتهيبون من هذه المسألة خشية أن يقولوا بنظرية لم تثبت بعد، ويلتمسون لها شاهدا من كتاب الله، ثم يثبت بطلانها بعد أن ربطوها بالقرآن.

والموقف الحق أن هناك فرقا بين نظرية علمية، وحقيقة علمية، فالنظرية مسألة محل بحث ومحل دراسة لم تثبت بعد؛ لذلك يقولون: هذا كلام نظري أي: يحتاج إلى ما يؤيده من الواقع، أما الحقيقة العلمية فمسألة وقعت تحت التجربة، وثبت صدقها عمليا ووثقنا أنها لا تتغير. فعلينا – إذن – ألا نربط القرآن بالنظرية التي تحتمل الصدق أو الكذب، حتى لا يتذبذب الناس في فهم القرآن، ويتهمونا أننا نفسر القرآن حسب أهوائنا. أما الحقيقة العلمية الثابتة فإذا جاءت بحيث لا تدفع فلا مانع من ربطها بالقرآن...

والواجب علينا أن نأخذ هذه التفاصيل من الخالق – عز وجل – وأن نقف عند هذا الحد، لأن معرفتك بكيفية الشيء ليست شرطا لانتفاعك به، فأنت تنتفع بمخلوقات الله وإن لم تفهم كيف خلقت؟ وكيف كانت؟...

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وقد استدلوا بها على أن الحي المراد به الحياة الإنسانية التي نحياها، ولم يفطنوا إلى أن الماء داخل في تكوين كل شيء، فالحيوان والنبات يحيا على الماء فإن فقد الماء مات وانتهى، وكذلك الأدنى من الحيوان والنبات فيه مائية أيضا، فكل ما فيه لمعة أو طراوة أو ليونة فيه ماء...

ويختتم سبحانه هذه الآية بقوله: {أفلا يؤمنون} يعني: اعموا عن هذه الآيات التي نبهوا إليها، وامتنعوا عن الإيمان؟ فكان يجب عليهم أن يلتفتوا إلى هذه الآيات العجيبة والنافعة لهم، كيف والبشر الآن يقفون أمام مخترع أو آلة حديثة أو حتى لعبة تبهرهم فيقولون: من فعل هذه؟ ويؤرخون له ولحياته، وتخرج في كلية كذا.. الخ. فمن الأولى أن نلتفت إلى الخالق العظيم الذي أبدع لنا هذا الكون، فالانصراف – إذن – عن آيات الله والإعراض عنها حالة غير طبيعية لا تليق بأصحاب العقول.