غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق والأنفس قائلاً { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض } أي جماعة السموات وجماعة الأرض { كانتا رتقاً ففتقناهما } الرتق بالسكون السد . رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك ، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين . عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن ، وقتادة أن المراد كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض . ومثله قول كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما فحصل الفتق ، وقال أبو صالح ومجاهد : كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعاً وكذلك الأرضون . وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين ، أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر . ويشبه أن يراد بالسموات على هذا التفسير السحب نظيره قوله { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } [ الطارق : 1112 ] ويؤيده قوله عقيبه : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وقيل : إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن ، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم " ثوب أخلاق " " وبرمة أعشار " وقريب من هذا قول من قال : المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [ يس : 37 ] وقال أبو مسلم الأصفهاني : الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه ، والفتق الإِيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله { فاطر السموات والأرض } [ الأنعام : 14 ] والفطر الشق . وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة ، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد . وههنا سؤال : وهو أن الكفار متى رأوهما رتقاً حتى صح هذا الاستفهام للتقرير ؟ كيف وقد قال الله تعالى { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } ؟ [ الكهف : 51 ] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة ، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم . وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال صاحب الكشاف في الجواب : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه . قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } قال السكاكي صاحب المفتاح : أي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء . واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساماً مائية ؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه . وقال صاحب الكشاف : إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله { خلق الإنسان من علق } وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعدياً إلى مفعولين ، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه . وقال في التفسير الكبير : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك : قلت : فعلى هذا يكون قوله { وجعلنا } داخلاً في حيز الاستفهام كأنه قيل : ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان . ومن المفسرين من جعل الحي شاملاً للنبات أيضاً كقوله { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] .

/خ50