ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق والأنفس قائلاً { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض } أي جماعة السموات وجماعة الأرض { كانتا رتقاً ففتقناهما } الرتق بالسكون السد . رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك ، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين . عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن ، وقتادة أن المراد كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض . ومثله قول كعب : خلق الله السموات والأرض ملتصقتين ، ثم خلق ريحاً توسطتهما فحصل الفتق ، وقال أبو صالح ومجاهد : كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعاً وكذلك الأرضون . وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين ، أن السموات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر . ويشبه أن يراد بالسموات على هذا التفسير السحب نظيره قوله { والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع } [ الطارق : 1112 ] ويؤيده قوله عقيبه : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وقيل : إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن ، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم " ثوب أخلاق " " وبرمة أعشار " وقريب من هذا قول من قال : المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } [ يس : 37 ] وقال أبو مسلم الأصفهاني : الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه ، والفتق الإِيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله { فاطر السموات والأرض } [ الأنعام : 14 ] والفطر الشق . وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة ، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد . وههنا سؤال : وهو أن الكفار متى رأوهما رتقاً حتى صح هذا الاستفهام للتقرير ؟ كيف وقد قال الله تعالى { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } ؟ [ الكهف : 51 ] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة ، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم . وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال صاحب الكشاف في الجواب : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد ، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من مخصص وهو القديم سبحانه . قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } قال السكاكي صاحب المفتاح : أي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء . واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساماً مائية ؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، والجن من نار خلقها منه ، وآدم من تراب خلقه منه . وقال صاحب الكشاف : إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله { خلق الإنسان من علق } وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعدياً إلى مفعولين ، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه . وقال في التفسير الكبير : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود ، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك : قلت : فعلى هذا يكون قوله { وجعلنا } داخلاً في حيز الاستفهام كأنه قيل : ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان . ومن المفسرين من جعل الحي شاملاً للنبات أيضاً كقوله { فأحيا به الأرض بعد موتها } [ الجاثية : 5 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.