إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

{ أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ } تجهيلٌ لهم بتقصيرهم في التدبُّر في الآيات التكوينيةِ الدالةِ على استقلاله تعالى بالألوهية وكونِ جميع ما سواه مقهوراً تحت ملكوتِه ، والهمزةُ للإنكار والواو للعطف على مقدّر وقرئ بغير واو والرؤيةُ قلبيةٌ ، أي ألم يتفكروا ولم يعلموا { أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا } أي جماعتا السماوات والأرضين كما في قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } { رَتْقاً } الرتْق الضمُّ والالتحامُ والمعنى إما على حذف المضافِ أو هو بمعنى المفعولِ أي كانتا ذواتيْ رتْقٍ أو مرتوقتين ، وقرئ رتَقاً أي شيئاً رتقاً أي مرتوقاً { ففتقناهما } قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عكرمة والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير : كانتا شيئاً واحداً ملتزمين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماءَ إلى حيث هي وأقرّ الأرض ، وقال كعب : خلق الله تعالى السماوات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحاً فتوسطتها ففتقتْها ، وعن الحسن : خلق الله تعالى الأرضَ في موضع بيت المقدس كهيئة الفِهْر عليها دخانٌ ملتزق بها ثم أصعدَ الدخانَ وخلق منه السماوات وأمسك الفِهرَ في موضعها وبسط منها الأرضَ وذلك قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما } وقال مجاهد والسدي : كانت السماوات مُرتتِقَةً طبقةً واحدة ففتقها فجعلها سبعَ سموات وكذلك الأرضُ كانت مرتتِقةً طبقةً واحدةً ففتقها فجعلها سبعَ أرضين ، وقال ابن عباس في رواية عطاء وعليه أكثرُ المفسرين : إن السماوات كانت رتْقاً مستويةً صُلبة لا تمطر والأرضُ رتْقاً لا تُنبت ففتق السماءَ بالمطر والأرضَ بالنبات ، فيكون المراد بالسماوات السماءَ الدنيا والجمعُ باعتبار الآفاقِ أو السماوات جميعاً على أن لها مدخلاً في الأمطار ، وعلمُ الكفرةِ الرتْقَ والفتقَ بهذا المعنى مما لا سِترةَ به وأما بالمعاني الأُوَل فهم وإن لم يعلموهما لكنهم متمكنون من علمهما إما بطريق النظرِ والتفكر ، فإن الفتقَ عارضٌ مفتقرٌ إلى مؤثر قديم وإما بالاستفسار من العلماء ومطالعةِ الكتب .

{ وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيء حَيّ } أي خلقنا من الماء كلَّ حيوان كقوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء } وذلك لأنه من أعظم موادِّه أو لفرْط احتياجِه إليه وانتفاعِه به ، أو صيرنا كلَّ شيء حي من الماء أي بسبب منه لا بد له من ذلك ، وتقديمُ المفعول الثاني للاهتمام به لا لمجرد أن المفعولين في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ وحقُّ الخبر عند كونه ظرفاً أن يتقدم على المبتدأ فإن ذلك مصحِّحٌ محْضٌ لا مرجحٌ ، وقرئ حيًّا على أنه صفةُ كلَّ أو مفعولٌ ثانٍ والظرفُ كما في الوجه الأول قُدّم على المفعول للاهتمام به والتشويقِ إلى المؤخر { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانِهم بالله وحده مع ظهور ما يوجبه حتماً من الآيات الآفاقية والأنفسيةِ الدالةِ على تفرده عز وجل بالألوهية وعلى كون ما سواه من مخلوقاته مقهورةً تحت ملكوته وقدرتِه ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكارُ السابق أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون !