محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَوَلَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ} (30)

هذا شروع في آياته الكونية ، الدالة على وحدته في ألوهيته ، التي عمى عنها المشركون ، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر . ومعنى قوله : { كَانَتَا رَتْقًا } أي لا تمطر ولا تنبت { فَفَتَقْنَاهُمَا } أي بالمطر والنبات .

فالفتق والرتق استعارة . ونظيره قوله تعالى : { والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع } و { الرجع } لغة هو الماء { الصدع } هو النبات لأنه يصدع الأرض أي يشقها . وقوله تعالى : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } أي كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته : { أنا صببنا الماء صبا } أي من المزن بعد أن لم يكن { ثم شققنا الأرض شقا } أي ثم بعد أن كانت رتقا متماسكة الأجزاء ، شققناها شقا مرئيا مشهودا ، كما تراه في الأرض بعد الري . أو شقا بالنبات .

وقال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى : { فاطر السماوات والأرض } وكقوله : { قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن } فأخبر عن الإيجاد بلفظ ( الفتق ) وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ ( الرتق ) .

قال الرازي : وتحقيقه أن العدم نفي محض . فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة . بل كأنه أمر واحد متصل متشابه . فإذا وجدت الحقائق ، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض ، وينفصل بعضها عن بعض . فهذا الطريق حسن . جعل ( الرتق ) مجازا عن العدم و ( الفتق ) عن الوجود . انتهى .

وقال بعض علماء الفلك : معنى قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقًا } أي شيئا واحدا . ومعنى { فَفَتَقْنَاهُمَا } فصلنا بعضهما عن بعض .

قال : فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه . أي أنها إحدى هذه السيارات . وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها .

وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى . وكونها كروية الشكل . فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه ، وكلها مخلوقة من مادة واحدة ، وهي مادة الشمس . وعلى طريقة واحدة . اه كلامه .

وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } فإن ذلك ما يبين أن لسابقه تعلقا بالماء . وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى : { أو لم ير } بصرية . وعلى قول أبي مسلم وما بعده ، علمية . على حد قوله تعالى لنبيه صلوات الله عليه : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } مع أنه لم يشاهد الحادثة ، بل ولد بعدها . وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة . وكذلك ما هنا من الفتق والرتق ، بمعنييه الأخيرين ، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته . فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمه .

ومعنى قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه . فيدخل فيه النبات والشجر . لأنه من الماء صار ناميا . وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر . وإسناد الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى . كقوله تعالى : ويحيي الأرض بعد موتها } وخص بعضهم الشيء بالحيوان ، لآية { والله خلق كل دابة من ماء } ولا ضرورة إليه . بل العموم أدل على القدرة وأعظم في العبرة ، وأبلغ في الخطاب ، وألطف في المعنى .

وقوله تعالى : { أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } ، إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده ، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الظاهرة .