الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{الزانية والزاني} إذا لم يحصنا {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} يجلد الرجل على بشرته وعليه إزار، وتجلد المرأة جالسة عليها درعها. {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} يعني: رقة في أمر الله، عز وجل، من تعطيل الحدود عليهما، {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} الذي فيه جزاء الأعمال، فلا تعطلوا الحد، {وليشهد عذابهما} يعني: جلدهما. {طائفة من المؤمنين}، يعني: رجلين فصاعدا، يكون ذلك نكالا لهما وعظة للمؤمنين. قال الفراء: الطائفة الواحد فما فوقه.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

ابن كثير: قال عبد الرزاق: حدثني ابن وهب عن الإمام مالك في قوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} قال: الطائفة أربعة نفر فصاعدا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: من زنى من الرجال أو زنت من النساء، وهو حُرّ بِكرٌ غير مُحْصَن بزوج، فاجلدوه ضربا مئة جلة عقوبة لِما صنع وأتى من معصية الله. "وَلا تَأْخُذُكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينَ اللّهِ "يقول تعالى ذكره: لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون رأفة، وهي رقة الرحمة في دين الله، يعني في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحدّ عليهما على ما ألزمكم به.

واختلف أهل التأويل في المنهيّ عنه المؤمنون من أخذ الرأفة بهما؛ فقال بعضهم: هو ترك إقامة حدّ الله عليهما، فأما إذا أقيم عليهما الحدّ فلم تأخذهم بهما رأفة في دين الله... عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول: ثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر، أن عبد الله بن عمر حدّ جارية له، فقال للجالد، وأشار إلى رجلها وإلى أسفلها، قلت: فأين قول الله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ، قال: أفأقتلها؟...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وَلا تَأْخُذْكُمْ بهما رأفَةٌ فتُخَفّفوا الضرب عنهما، ولكن أوجعوهما ضربا...

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا تأخذكم بهما رأفة في إقامة حدّ الله عليهما الذي افترض عليكم إقامته عليهما.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب، لدلالة قول الله بعده: «في دين الله»، يعني في طاعة الله التي أمركم بها. ومعلوم أن دين الله الذي أمر به في الزانيين: إقامة الحدّ عليهما، على ما أمر من جلد كل واحد منهما مئة جلدة، مع أن الشدّة في الضرب لا حدّ لها يوقف عليه، وكلّ ضرب أوجع فهو شديد، وليس للذي يوجع في الشدّة حدّ لا زيادة فيه فيؤمر به وغير جائز وصفه جلّ ثناؤه بأنه أمر بما لا سبيل للمأمور به إلى معرفته، وإذا كان ذلك كذلك، فالذي للمأمورين إلى معرفته السبيل هو عدد الجَلد على ما أمر به، وذلك هو إقامة الحد على ما قلنا...

وقوله: "إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" يقول: إن كنتم تصدّقون بالله ر بكم وباليوم الآخر، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب، فإن من كان بذلك مصدّقا فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه خوف عقابه على معاصيه. وقوله: "وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ" يقول تعالى ذكره: وليحضر جلد الزانيين البِكْرَين وحدّهما إذا أقيم عليهما طائفةٌ من المؤمنين. والعرب تسمي الواحد فما زاد طائفة، "مِنَ المُؤُمِنينَ" يقول: من أهل الإيمان بالله ورسوله.

وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ عدد الطائفة الذي أمر الله بشهود عذاب الزانيين البِكْرين؛

فقال بعضهم: أقله واحد...

وقال آخرون: أقله في هذا الموضع رجلان...

وقال آخرون: أقلّ ذلك ثلاثة فصاعدا...

وقال آخرون: بل أقلّ ذلك أربعة...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أقلّ ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين: الواحد فصاعدا وذلك أن الله عمّ بقوله: "وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ"، والطائفة: قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا. فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن الله تعالى ذكره وضع دلالة على أن مراده من ذلك خاصّ من العدد، كان معلوما أن حضور ما وقع عليه أدنى اسم الطائفة ذلك المحضر مخرج مقيم الحدّ مما أمره الله به بقوله: "وَلَيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ". غير أني وإن كان الأمر على ما وصفت، أستحبّ أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته على الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك فلا خلاف بين الجمع أنه قد أدّى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك، وهم فيما دون ذلك مختلفون.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

{الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. قال أبو بكر: لم يختلف السلف في أن حدَّ الزانيين في أول الإسلام ما قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15] إلى قوله: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16]، فكان حَدُّ المرأة الحَبْسَ والأَذَى بالتعيير، وكان حدُّ الرجل التعيير، ثم نُسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائةَ جَلْدَةٍ}، ونسخ عن المحصن بالرجم؛ وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الجَلْدُ والرَّجْمُ"، فكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} [النساء: 15] إلى قوله: {أو يجعل الله لهن سبيلاً} [النساء: 25]، وذلك لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إيّانا على أن ما ذكره من ذلك هو السبيل المراد بالآية؛ ومعلوم أنه لم تكن بينهما واسطة حكم آخر، لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدماً لقوله صلى الله عليه وسلم بحديث عبادة أن المراد بالسبيل هو ما ذكره دون غيره، وإذا كان كذلك كان الأذَى والحبس منسوخَيْنِ عن غير المحصن بالآية وعن المحصن بالسنّة وهو الرجم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

والعقوبة على الزنا شديدة أكيدة، ولكن جعل إثباتَ أمره وتقرير حُكْمِه والقطع بكونه على أكثر الناس خصلة عسيرة بعيدة؛ إذ لا تُقْبَلُ الشهادةُ عليه حتى يقول: رأيتُ ذلك منه في ذلك منها! وذلك أمرٌ ليس بالهيِّن، فسبحان مَنْ أَعْظَمَ العقوبةَ على تلك الفَعْلَةِ الفحشاء، ثم جعل الأمر في إثباتها بغاية الكدِّ والعناء! وحين اعترف واحدٌ له بذلك قال له صلى الله عليه وسلم:"لعلَّك قَبَّلْتَ... لعلَّك لامَسْتَ" وقال لبعض أصحابه. "استنكهوه "وكلُّ ذلك رَوْماً لِدَرْءِ الحدِّ عنه، إلى أن ألحَّ وأصرَّ على الاعتراف.

{وَلاَ تَأْخُذُكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الأَخِرِ}. ما يأمر به الحقُّ فالواجب مقابلته بالسمع والطوع. والرحمة من موجب الشرع وهو المحمود، فأمّا ما يقتضيه الطَّبعُ والعادة والسوء فمذمومٌ غيرُ محمود. ونهى عن الرحمة على من خَرَقَ الشرعَ، وتَرَكَ الأمرَ، وأساءَ الأدبَ، وانتصبَ في مواطنِ المخالفة. ويقال نهانا عن الرحمة بهم، وهو يرحمهم بحيث لا يمحو عنهم -بتلك الفَعْلة الفحشاء- رقم الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ولولا رحمته لما استبقى عليه حُلّة إيمانه مع قبيح جُرْمِهِ وعصيانه.

{وَلْيَشْهَدْ عَذَابهُما طَآئِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنينَ}. أي ليَكُونَ عليهم أشَدَّ، وليكون تخويفاً لمتعاطي ذلك الفعل، ثم من حقِّ الذين يشهدون ذلك الموضعَ أن يتذكروا عظيمَ نعمةِ الله عليهم أنهم لم يفعلوا مِثْله، وكيف عَصَمَهم من ذلك. وإن جرى منهم شيءٌ من ذلك يذكروا عظيمَ نعَمةِ الله عليهم؛ كيف سَتَرَ عليهم ولم يفضحهم، ولم يُقِمْهم في الموضع الذي أقام فيه هذا المُبْتَلَى به وسبيلُ من يشهد ذلك الموضعَ ألا يُعَيِّرَ صاحبَه بذلك، وألا ينسى حُكْمَ الله تعالى في إقدامه على جُرْمِه.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

..."فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" الجلد: ضرب الجلد، يقال: جلدته إذا ضربت جلده، وبطنته إذا ضربت بطنه، وظهرته إذا ضربت ظهره، وفي الآية قولان: أحدهما: أن الآية عامة في الأبكار والثيب، فتجلد الثيب مع الرجم. روي عن علي -رضي الله عنه- «أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس مائة، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم»... وقوله: "في دين الله" أي: في حكم الله.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين:

أحدهما: ما يتعلق بالشرعيات.

والثاني: ما يتعلق بالعقليات. ونحن نأتي على البابين بقدر الطاقة إن شاء الله تعالى.

النوع الأول: الشرعيات، واعلم أن الزنا حرام وهو من الكبائر ويدل عليه أمور. أحدها: أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما} وقال: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا}.

وثانيها: أنه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر، وشرع فيه الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة وأمر بشهود الطائفة للتشهير وأوجب كون تلك الطائفة من المؤمنين، لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجل... لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون عامة الناس، فالتقدير فاجلدوا أيها الأئمة والحكام كل واحد منهما مائة جلدة، ولم يفرق في هذه الآية بين المحدودين من الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي...

.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي: في حكم الله. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية [ألا تكون حاصلة] على ترك الحد، [وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد] فلا يجوز ذلك...

{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي: فافعلوا ذلك: أقيموا الحدود على من زنى، وشددوا عليه الضرب، ولكن ليس مبرِّحا؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير في برهانه: لما قال تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون} [المؤمنون:5] ثم قال تعالى {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 7] استدعى الكلام بيان حكم العادي في ذلك، ولم يبين فيها فأوضحه في سورة النور فقال تعالى {الزانية والزاني} -الآية، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف وانجرّ مع ذلك الإخبار بقصة الإفك تحذيراً للمؤمنين من زلل الألسنة رجماً بالغيب {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم}...

ولما كان مبنى هذه الدار على الأنساب في التوارث والإمامة والنكاح وغير ذلك، ومبنى تلك الدار على الأعمال لقوله تعالى {فلا أنساب بينهم يومئذ} [المؤمنون: 101] وكان قد حث في آخر تلك على الستر والرحمة، حذر سبحانه رحمة منه في أول هذه من لبس الأنساب، وكسب الأعراض وقطع الأسباب، معلماً أن الستر والرقة ليسا على عمومهما، بل على ما يحده سبحانه، فقال مخاطباً للأئمة ومن يقيمونه: {الزانية} وهي من فعلت الزنا، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً، وقدمها لأن أثر الزنا يبدو عليها من الحبل وزوال البكارة، ولأنها أصل الفتنة بهتك ما أمرت به من حجاب التستر والتصون والتحذر...

{ولا تأخذكم} أي على حال من الأحوال {بهما رأفة} أي لين، ولعله عبر بها إعلاماً بأنه لم ينه عن مطلق الرحمة، لأن الرأفة أشد الرحمة أو أرقها وتكون عن أسباب من المرؤوف به، وكذا قوله: {في دين الله} أي الذي شرعه لكم الملك المحيط بصفات الكمال- إشارة إلى أن الممنوع منه رحمة تؤدي إلى ترك الحد أو شيء منه أو التهاون به أو الرضى عن منتهكه لا رقة القلب المطبوع عليها البشر... ولما علم سبحانه ما طبع عليه عباده من رحمة بعضهم لبعض فحث على هذا الحكم بالأمر والنهي، زاد في التهييج إليه والحض عليه بقوله: {إن كنتم} أي بما هو كالجبلة التي لا تنفك {تؤمنون بالله} أي الملك الأعظم الذي هو أرحم الراحمين، فما شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانيين خصوصاً، فمن نقص سوطاً فقد ادعى أنه أرحم منه، ومن زاد سوطاً فقد ظن أنه أحكم وأعظم منه. ولما ذكر بالإيمان الذي من شرطه التزام الأحكام، وكان الرجاء غالباً على الإنسان، أتبعه ما يرهبه فقال: {واليوم الآخر} الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي. ولما كان الخزي والفضيحة أعظم عند بعض الناس من ضرب السيف فضلاً عن ضرب السوط قال: {وليشهد} أي يحضر حضوراً تاماً {عذابهما طائفة} أي جماعة يمكن إطافتها أي تحلقها وحفوفها بكل منهما {من المؤمنين} العريقين إشهاراً لأمرهما نكالاً لهما، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة. وفي كل هذا إشارة ظاهرة إلى أن إقامة الحدود والغلظة فيها من رحمته سبحانه المشار إليها بقوله {وأنت خير الراحمين} [المؤمنون: 118].

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

والزانية هي: المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة لا المكرهة، وكذلك الزاني.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة [بهما] في دين الله، تمنعنا من إقامة الحد عليهم، سواء رأفة طبيعية، أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأن الإيمان موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله، فرحمته حقيقة، بإقامة حد الله عليه، فنحن وإن رحمناه لجريان القدر عليه، فلا نرحمه من هذا الجانب... وليشاهدوا الحد فعلا، فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل، مما يقوى بها العلم، ويستقر به الفهم، ويكون أقرب لإصابة الصواب، فلا يزاد فيه ولا ينقص، والله أعلم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا؛ وتفظيع هذه الفعلة، التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات:

"الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة؛ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله -إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر- وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين. الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك؛ وحرم ذلك على المؤمنين"..

كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساء: "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم. فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا".. فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير. وكان حد الرجل الأذى بالتعبير.

ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور. فكان هذا هو (السبيل) الذي أشارت إليه من قبل آية النساء.

والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء، وهو الذي لم يحصن بالزواج. ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا. فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم.

وقد ثبت الرجم بالسنة، وثبت الجلد بالقرآن. ولما كان النص القرآني مجملا وعاما. وكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد رجم الزانيين المحصنين، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن.

وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن، والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم، كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده، وحول حد الزاني غير الحر.. وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا، يطلب في موضعه من كتب الفقه.. إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع، فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد، وعقوبة المحصن هي الرجم. ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح -وهو مسلم حر بالغ- قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه، فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها، فهو جدير بتشديد العقوبة، بخلاف البكر الغفل الغر، الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير.. وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل. فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر. فهو حري بعقوبة كذلك أشد.

والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده -كما سلف- فيشدد في الأخذ به، دون تسامح ولا هوادة:

"الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين".

فهي الصرامة في إقامة الحد؛ وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته، تراخيا في دين الله وحقه. وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين، فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والزنى أقبح الجرائم التي تفتك بالجماعات الإنسانية، ولذا قرن النهي عنه بالقتل إذ يقول سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى.." وترى النهي عن الزنى جاء بعد النهي عن الوأد؛ لأنه من بابه، وإذا كان الوأد قتلا للولد، فالزاني كذلك؛ لأنه يرمي النطفة، ولذا لوحظ في الأمم التي تكثر فيها الفاحشة، أنها تفني شيئا فشيئا، وأن شيوع الزنى في أمة يضعف قوتها ونخوتها ويجعلها جماعة لاهية لاعبة. وهذه الجريمة لما فيها من فحش، وإضعاف لقوة الأمة، وإردائها في مهاوي الهلكة شدد الله تعالى عقوبتها.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 1]

مطلع السورة فريد، وقد احتوت الآية الأولى تنويها بالسورة وما فيها من أحكام فرضها الله استهدافا لتذكير المخاطبين الذين هم المسلمون على ما هو المتبادر وتبصيرهم أما الآية الثانية فقد احتوت تشريعا في حد الزنا فأوجبت جلد الزانية والزاني مائة جلدة، في مشهد علني يشهده فريق من المؤمنين وشددت في عدم التهاون في إقامة هذا الحد وفي طريقة تنفيذه وعدم الرأفة بالمجرمين وجعلت ذلك دليلا على إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر بسبيل توكيده...

ومن الجدير بالتنويه أن التشريع القرآني والنبوي معا قد سوى بين الرجل والمرأة. وفي هذا ما فيه من عدل وحق من جهة ومن تقرير مساواة الرجل والمرأة في تبعة العمل الواحد والتكاليف المتشابهة من جهة ثانية.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ثم شرع كتاب الله فورا في بيان الحكم الصارم الذي شرعه لمقاومة الزنى والقضاء عليه، فقال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}، و "الجلد "معناه إصابة الجلد بالضرب، ولم تتعرض الآية لهيئة الجالد ولا لهيئة المجلود، ولا لمحل الجلد، ولا لصفة الآلة المجلود بها، وتركت ذلك للسنة والاجتهاد، واتفق العلماء على أن الجلد يكون بالسوط، بشرط أن لا يكون السوط شديدا ولا لينا، وإنما بين بين،...

{ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}، إشارة إلى وجوب تنفيذ هذه العقوبة كاملة، متى كانت شروطها متوافرة، وحضا على عدم النقص من قدرها فضلا عن تعطيلها بالمرة، لأن الإخلال بها إخلال بدين الله وشرعه النافذ، والمطالب بتنفيذ عقوبة الجلد هو إمام المسلمين ومن ينوب عنه، لا عامة الناس، وسعيا في التأثير على غير الزاني والزانية، حتى لا يقع فيما وقعا فيه، وتشهيرا بهذه الجريمة النكراء، وتنفيرا منها، قال تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

...والمتأمل في آيات الحدود يجد مثلا في حد السرقة قوله تعالى {والسارق والسارقة.. (38)} [المائدة]: فبدأ بالمذكر، أما في حد الزنا فقال: {الزانية والزاني} فبدأ بالمؤنث، لماذا الاختلاف في التعبير القرآني؟. قالوا: لأن دور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه، لذلك أمر الحق- تبارك وتعالى- الرجال بغض البصر وأمر النساء بعدم إبداء الزينة، ذلك ليسد نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها. أما في حالة السرقة فعادة يكون عبء النفقة ومؤنة الحياة على كاهل الرجل، فهو المكلف بها، لذلك يسرق الرجل، أما المرأة فالعادة أنها في البيت تستقبل، وليس من مهمتها توفير تكاليف الحياة، لكن لا مانع مع ذلك أن تسرق المرأة أيضا، لذلك بدأ في السرقة بالرجل. إذن: بمقارنة آيات القرآن تجد الكلام موزونا دقيقا غاية الدقة، لكل كلمة ولكل حرف عطاؤه، فهو كلام رب حكيم، ولو كانت المسألة مجرد تقنين عادي ما التفت إلى مثل هذه المسائل. ثم يأتي الحد الرادع لهذه الجريمة {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} اجلدوا: أمر، لكن لمن؟ لم يقل أيها الحاكم أو القاضي، لأن الأمر هنا للأمة كلها، فأمر إقامة الحدود منوط بالأمة كلها، لكن أتنهض الأمة بأسرها وتعددها بفعل واحد في كل مكان؟. قالوا: الأمة مثل النائب العام للوالي، عليه أن يختار من يراه أهلا للولاية لينفذ له ما يريد، ومن ولى قاضيا فقد قضى، وما دام الأمر كذلك فإياك أن تولي القضاء من لا يصلح للقضاء، لأن التبعة- إذن- ستكون عليك إن ظلم أو جار، فالواو والألف في {فاجلدوا} تدل على معان كبيرة، فالأمة في مجموعها لا تستطيع أن تجلد كل زان أو زانية، لكن حين تولي إمامها بالبيعة، وحين تختاره ليقيم حدود الله، فكأنها هي التي أقامت الحدود وهي التي نفذت...

{ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} تحذير من الرحمة الحمقاء، الرحمة في غير محلها... فالرأفة لا تكون في حدود الله، ارأفوا بهم في مسائلكم الخاصة فيما بينكم، وعجيب أن تدعوا الرأفة في مسائل الحدود وأنتم من ناحية أخرى تضربون وتسرقون أموال الناس، وتنتهكون حرماتهم، وتثيرون بينهم الفتنة والحروب، فأين الرأفة إذن. إذن: لا مجال للرحمة وللرأفة في حدود الله، فلسنا أرحم بالخلق من الخالق، وما وضعت الحدود حبا في تعذيب الناس، إنما وضعت وشدد عليها لتمنع الوقوع في الجريمة التي تستوجب الحد، فقطع يد واحدة تمنع قطع آلاف الأيدي... وقوله تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} هذا كلام موجع، وإهاجة لجماعة المؤمنين، فهذا هو الحكم، وهذا هو الحد قد شرعه الله، فإن كنتم مؤمنين بالله وبالحساب والعقاب فطبقوا شرع الله، وإلا فراجعوا إيمانكم بالله وباليوم الآخر لأننا نشك في صدق هذا الإيمان. وكأن الحق- تبارك وتعالى- يهيجنا ويثيرنا على أهل هذه الجريمة، لنأخذ على أيديهم ونخوفهم بما شرع الله من الحدود. فالمعنى: إن كنتم تؤمنون بالله إلها حكيما مشرعا، خلق خلقا، ويريد أن يحمي خلقه ويطهره ليكون أهلا لخلافته في الأرض الخلافة الحقة، فاتركوا الخالق يتصرف في كونه وفي خلقه على مراده عز وجل، فالخلق ليس خلقكم لتتدخلوا فيه. ثم يقول تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} فالأمر لا يقف عند حد التعذيب والجلد، إنما لا بد أن يشهد هذا العذاب جماعة من المؤمنين، والطائفة هم الجماعة وأقلها أربعة لماذا؟ قالوا: لأن النفس قد تتحمل الإهانة إن كانت سرا لا يطلع عليها أحد، فلا يؤلمه أن تعذبه أشد العذاب بينك وبينه، إنما لا يتحمل أن تشتمه أمام الناس. إذن: فمشاهدة الحد إهانة لصاحبه، وهي أيضا زجر للمشاهد، ونموذج عملي رادع. لذلك يقولون: الحدود زواجر وجوابر، زواجر لمن شاهدها أي: تزجره عن ارتكاب ما يستوجب هذا الحد، وجوابر لصاحب الحد تجبر ذنبه وتسقط عنه عقوبة الآخرة، فلا يمكن أن يستوي من أقر وأقيم عليه الحد بمن لم يقر، ولأن الزنا لم يثبت بشهود أبدا، وإنما بإقرار، وهذا دليل على أن الحكم صحيح في ذهنه، ويرى أن فضوح الدنيا وعذابها أهون من فضوح الآخرة وعذابها، إلا لما أقر على نفسه. فالمسألة يقين وإيمان ثابت بالقيامة وبالبعث والحساب، والعقوبة اليوم أهون، وإن كان الزنا يثبت بالشهود فلربما دلسوا، لذلك النبي (ص) كان يأتيه الرجل مقرا بالزنا فيقول له:"لعلك قبلت، لعلك غمزت، لعلك لمست"، يعني: لم تصل إلى الحد الذي يسمى زنا، يريد رسول الله (ص) أن يدرأ الحد بالشبهة. ولهذا المبدأ الإسلامي السمح إن أخذت الزاني وذهبت ترجمه فآلمه الحجر فحاول الفرار يأمرنا الشرع ألا نتبعه وألا نلاحقه، لماذا؟ لأنه اعتبر أن فراره من الحد كأنه رجوع عن الإقرار.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ومن الطبيعي أن يولي المجتمع السليم الأحكامَ اهتماماً كبيراً، فتكرار التحدِّي للحدود الشرعيَّة يُفْقِدُها فاعليتها في صيانَةَ الطمأنينة والاستقرار في النفوس، ومِنْ هنا وجبت إقامة هذا الحَدِّ عَلَناً ليمتنع الناسُ مِن تكرار فاحِشَة ساءَتْ سبيلا.