المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

34- واذكر - يا أيها النبي - حين قلنا للملائكة : اخضعوا لآدم تحية له وإقراراً بفضله ، فأطاع الملائكة كلهم إلا إبليس ، امتنع عن السجود وصار من العاصين له والكافرين بنعم الله وحكمته وعلمه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (34)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 )

و { قلنا } كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع ، وقوله للملائكة عموم فيهم .

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع( {[458]} ) : «للملائكةُ اسجدوا » برفع تاء للملائكة إتباعاً لضمة ثالث المستقبل .

قال أبو علي : «وهذا خطأ » .

وقال الزجاج : «أبو جعفر من رؤساء القرأة ولكنه غلط في هذا » .

قال أبو الفتح : لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفاً ساكناً صحيحاً ، نحو قوله تعالى : { وقالت اخرج عليهن }( {[459]} ) [ يوسف : 31 ] والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل ، ومنه قول الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ترى الأُكْمَ فيهِ سُجَّداً للحوافرِ( {[460]} )

وغايته وضع الوجه بالأرض ، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع ، ذكره النقاش وغيره ، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود .

قوله تعالى : { فقعوا له ساجدين } [ الحجر : 29 ] لا دليل فيه( {[461]} ) لأن الجاثي على ركبتيه واقع .

واختلف في حال السجود لآدم ، فقال ابن عباس : «تعبدهم الله بالسجود لآدم ، والعبادة في ذلك لله » .

وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس : «إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام ، لا سجود عبادة » .

وقال الشعبي : «إنما كان آدم كالقبلة( {[462]} ) ، ومعنى لآدم إلى آدم »( {[463]} ) .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام .

وحكى النقاش عن مقاتل : «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه » .

قال : «والقرآن يرد على هذا القول » .

وقال قوم : سجود الملائكة كان مرتين ، والإجماع يرد هذا .

وقوله تعالى : { إلا إبليس } نصب على الاستثناء المتصل ، لأنه من الملائكة على قول الجمهور ، وهو ظاهر الآية ، وكان خازناً وملكاً على سماء الدنيا والأرض ، والأرض ، واسمه عزازيل ، قاله ابن عباس .

وقال ابن زيد والحسن : «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن قط ملكاً » .

وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضاً ، قال : «واسمه الحارث »( {[464]} ) .

وقال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً ، وتعبد وخوطب معها( {[465]} ) ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود : والاستثناء على هذه الأقوال منقطع ، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة : «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون »( {[466]} ) .

ورجح الطبري قول من قال : «إن إبليس كان من الملائكة » . وقال : «ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة » .

وقوله عز وجل : { كان من الجن ففسق عن أمر ربه }( {[467]} ) [ الكهف : 50 ] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا ، أو على أن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها ، قال تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً }( {[468]} ) [ الصافات : 158 ] .

وقال الأعشى( {[469]} ) في ذكر سليمان عليه السلام : [ الطويل ]

وسخّر من جن الملائك تسعة . . . قياماً لديه يعملون بلا أجْرِ

أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ ، لما كان خازناً عليها ، و { إبليس } لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرف( {[470]} ) .

قال الزجاج : «ووزنه فِعْليل » .

وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم : هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير ، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه ، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله ، وأيوب من آب يؤوب ، مثل قيوم من قام يقوم ، ولما لم تصرف هذه -ولها وجه من الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج : [ الرجز ] .

يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا . . . قال نعمْ أعرفه وأبلسا( {[471]} )

أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر : [ الرجز ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي الوجوه صفرة وإبلاس( {[472]} )

ومنه قوله تعالى : { فإذا هم مبلسون }( {[473]} ) [ الأنعام : 44 ] أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون- و { أبى } معناه امتنع من فعل ما أمر به ، و { استكبر } دخل في الكبرياء ، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه ، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده . ( {[474]} )

وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح( {[475]} ) ، حسد إبليس آدم وتكبر ، وشح آدم في آكله من شجرة قد نهي عن قربها .

حكى المهدوي عن فرقة أن معنى { وكان من الكافرين } : وصار( {[476]} ) من الكافرين .

وقال ابن فورك : «وهذا خطأ ترده الأصول » .

وقالت فرقة : «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم ، لما فعل في الكفر فعلهم » .

وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول : «وكان من الكافرين معناه : من العاصين » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت .

وروي أن الله تعالى خلق خلقاً وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار ، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم ، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والإسناد في مثل هذا غير وثيق .

وقال جمهور المتأولين : معنى { وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى أنه سيكفر ، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة . ( {[477]} )

وذهب الطبري : إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم ، واختلف هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره ، فمن قال إنه كفر جهلاً : قال : «إنه سلب العلم عند كفره » . ومن قال كفر عناداً قال : «كفر ومعه علمه » ، قال : والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء( {[478]} ) . ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن .


[458]:- أبو جعفر بن القعقاع: من مشاهير القراء ومن مشيخة نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، أخذ القرآن من عبد الله بن عباس وغيره، وقرأ بضم التاء وقال: إنها لغة أزدشنوءة، وعلل قراءته- بأن العرب تستثقل الضمة بعد الكسر- وبأن هذه التاء كهمزة الوصل. فكما أن الهمزة تسقط في الدرج لأنها ليست أصيلة كذلك التاء في الملائكة تسقط كونها ليست أصيلة، فقالوا (الملائك) كما قال الأعشى في البيت الآتي، ومع ذلك تألبوا عليه وخطؤوه.
[459]:- من الآية 31 من سورة يوسف.
[460]:- صدره: بجمع تضل البلق في حجراته ............................ وقائله زيد الخيل.
[461]:- أي: للقول ببلوغهم غاية السجود وهو وضع الجبهة على الأرض.
[462]:- ما قاله الشعبي تفسير لقول ابن عباس، فكما أن الصلاة إلى الكعبة هي عبادة لله، فكذلك الصلاة إلى آدم هي عبادة لله وآدم قبلة.
[463]:- هناك فرق بين قولك: (سجد له) و(سجد إليه)، والسجود لله طاعة وإيمان، والسجود لغيره كفر وعصيان، ويقال سجد إلى العنزة كما يقال صلى إلى الكعبة.
[464]:- اسمه عزازيل بالسريانية، والحارث بالعربية.
[465]:- مربوط بالفعلين قبله، فكان يتعبد معهم، وخوطب معهم في قوله تعالى: [اسجدوا لآدم].
[466]:- من الآية 6 من سورة التحريم.
[467]:- من الآية 50 من سورة الكهف.
[468]:- من الآية 158 من سورة الصافات.
[469]:- هو أعشى قيس
[470]:- أي: لا اشتقاق لهن وقيل: إنه مشتق من الإبلاس، وهو اليأس، يقال: أبلس من رحمة الله إذا يئس، ولما كان عربيا وجب أن ينصرف إلا أن علة عدم صرفه هي شذوذه، وقلة نظائره، فكأنه بذلك أشبه الإسم الأعجمي.
[471]:- الرسم: الأثر- ورسم الدار: ما كان من آثارها لاصقا بالأرض- والكرس بالكسر: الأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض. (الصحاح).
[472]:- صدره: وحضرت يوم خميس الأخماس ............................. وهو لرؤية بن العجاج. والإبلاس هو: الحزن والانكسار، وقد يحمل معنى الياس والقنوط وقطع الرجاء.
[473]:- من الآية 44 من سورة الأنعام.
[474]:- يعني أن الإباية مقدمة على الاستكبار في الظاهر، والاستكبار مقدم على الإباية في الباطن.
[475]:- الشح هنا: هو الحرص على الشيء والرغبة فيه.
[476]:- من المعروف أن كان هي أم الأفعال، لأن كل شيء داخل تحت الكون. فتأتي بمعنى صار وبمعنى غيره، وقد فسر الآية بـ(صار) علماء اللغة. كالفيروز بادي في القاموس، والفيومي في المصباح، وابن منظور في اللسان، وغيرهم، والمعنى: أنه آل أمره إلى الكفر – أو يقال: إن كان على بابها، ولكن بالقياس إلى ما في علم الله تعالى.
[477]:- أي موافاة الإيمان أو الكفر، وهذا صحيح للحديث الصحيح (وإنما الأعمال بالخواتيم).
[478]:- أي وواقع- كفرعون فإنه ادعى الربوبية مع علمه بوحدانية الله وربوبيته، -وكأبي جهل فإنه أقام على كفره مع تحققه من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلمه أن ما جاء به حق.