قوله تعالى :{ وإذا وقع القول عليهم } وجب العذاب عليهم ، وقال قتادة : إذا غضب الله عليهم ، { أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم } واختلفوا في كلامها ، فقال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقال بعضهم : كلامها أن تقول لواحد : هذا مؤمن ، وتقول لآخر : هذا كافر . وقيل كلامها ما قال الله تعالى : { إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } . قال مقاتل تكلمهم بالعربية ، فتقول : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث . قرأ أهل الكوفة : أن الناس بفتح الألف ، أي : بأن الناس ، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف ، أي : أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون قبل خروجها . قال ابن عمر : وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر . وقرأ سعيد بن جبير ، وعاصم الجحدري ، وأبو رجاء العطاردي : تكلمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الجرح . قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية : تكلمهم أو تكلم ؟ قال : كل ذلك تفعل ، تكلم المؤمن ، وتكلم الكافر .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنبأنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، أنبأنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بادروا بالأعمال ستاً : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدجال ، ودابة الأرض ، وخاصة أحدكم ، وأمر العامة " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنبأنا مسلم بن الحجاج ، أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنبأنا محمد بن بشر ، عن أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً " .
وأخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله الحسين بن أحمد ابن فنجويه ، أنبأنا أبو بكر بن خرجة ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي ، أنبأنا هشيم ابن حماد ، أنبأنا عمرو بن محمد العبقري ، عن طلحة بن عمرو ، عن عبد الله بن عمير الليثي ، عن أبي شريحة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها في البادية ولا يدخل ذكرها القرية ، يعني مكة ، ثم تمكث زماناً طويلاً ، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة ، فيفشو ذكرها في البادية ، ويدخل ذكرها القرية يعني مكة فبينما الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عز وجل يعني : المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو " كذا قال ابن عمر ، وما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، حتى إن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول :يا فلان الآن تصلي ؟ فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاور الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ، ويشتركون في الأموال ، يعرف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن : يا مؤمن ، ويقال للكافر : يا كافر .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد ، أنبأنا أبو بكر بن مالك العطيفي ، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا بهز ، حدثنا حماد ، هو ابن أبي سلمة ، أنبأنا علي بن زيد ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم حتى أن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر " . وروي عن علي قال : ليست بدابة لها ذنب ، ولكن لا لحية ، كأنه يشير إلى أنه رجل والأكثرون على أنها دابة . وروى ابن جريج عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً ، معها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فلا يبقى مؤمن إلا نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضيء بها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نكتت وجهه بخاتم سليمان فيسود بها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق : بكم يا مؤمن ؟ بكم يا كافر ؟ ثم تقول لهم الدابة : يا فلان أنت من أهل الجنة ، ويا فلان أنت من أهل النار ، فذلك قوله عز وجل : { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض } الآية .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني عقيل بن محمد الجرجاني الفقيه ، أنبأنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، أنبأنا أبو كريب ، أنبأنا الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر قال : " تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها " . وبه عن محمد بن جرير الطبري قال : حدثني عصام بن داود بن الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن سعيد ، أنبأنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة ، قلت : يا رسول الله من أين تخرج ؟ قال : من أعظم المساجد حرمة على الله ، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضرب الأرض تحتهم ، وتنشق الصفا مما يلي المشعر ، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش ، لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب ، تسمي الناس مؤمناً وكافراً ، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء ، وتكتب بين عينيه كافر " . وروي عن ابن عباس : أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم ، وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه . وعن عبد الله بن عمرو ، قال : تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا ، فتمر بالإنسان يصلي فتقول : ما الصلاة من حاجتك ، فتخطمه وعن ابن عمر قال : تخرج الدابة ليلة جمع ، والناس يسيرون إلى منى . وعن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بئس الشعب شعب أجياد ، مرتين أو ثلاثاً ، قيل : ولم ذلك يا رسول الله ، قال : تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين " . وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير ، فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون .
هذا انتقال إلى التذكير بالقيامة وما ادخر لهم من الوعيد . فهذه الجملة معطوفة على الجمل قبلها عطف قصة على قصة . ومناسبة ذكرها ما تقدم من قوله { إنك لا تسمع الموتى } إلى قوله { عن ضلالتهم } [ النمل : 80 ، 81 ] . والضمير عائد إلى الموتى والصم والعمي وهم المشركون .
و { القول } أريد به أخبار الوعيد التي كذبوها متهكمين باستبطاء وقوعها بقولهم { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ النمل : 71 ] ، فالتعريف فيه للعهد يفسره المقام .
والوقوع مستعار لحلول وقته وذلك من وقت تهيؤ العالم للفناء إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
والآية تشير إلى شيء من أشراط حلول الوعيد الذي أنذروا به وهو الوعيد الأكبر يعني وعيد البعث ، فتشير إلى شيء من أشراط الساعة وهو من خوارق العادات . والتعبير عن وقوعه بصيغة الماضي لتقريب زمن الحال من المضي ، أي أشرف وقوعه ، على أن فعل المضي مع ( إذا ) ينقلب إلى الاستقبال .
والدابة : اسم للحي من غير الإنسان ، مشتق من الدبيب ، وهو المشي على الأرض وهو من خصائص الأحياء . وتقدم الكلام على لفظ { دابة } في سورة الأنعام ( 38 ) . وقد رويت في وصف هذه الدابة ووقت خروجها ومكانه أخبار مضطربة ضعيفة الأسانيد فانظرها في « تفسير القرطبي » وغيره إذ لا طائل في جلبها ونقدها .
وإخراج الدابة من الأرض ليريهم كيف يحي الله الموتى إذ كانوا قد أنكروا البعث . ولا شك أن كلامها لهم خطاب لهم بحلول الحشر . وإنما خلق الله الكلام لهم على لسان دابة تحقيراً لهم وتنديماً على إعراضهم عن قبول أبلغ كلام وأوقعه من أشرف إنسان وأفصحه ، ليكون لهم خزياً في آخر الدهر يعيرون به في المحشر . فيقال : هؤلاء الذين أعرضوا عن كلام رسول كريم فخوطبوا على لسان حيوان بهيم . على نحو ما قيل : استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما .
وجملة { إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } تعليل لإظهار هذا الخارق للعادة حيث لم يوقن المشركون بآيات القرآن فجعل ذلك إلجاء لهم حين لا ينفعهم .
وقرأ الجمهور { إن الناس } بكسر همزة ( إن ) ، وموقع ( إن ) في مثل هذا التعليل . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { أن الناس } بفتح الهمزة وهي أيضاً للتعليل لأن فتح همزة ( أن ) يؤذن بتقدير حرف جر وهو باء السببية ، أي تكلمهم بحاصل هذا وهو المصدر . والمعنى : أنها تسجل على الناس وهم المشركون عدم تصديقهم بآيات الله . وهو تسجيل توبيخ وتنديم لأنهم حينئذ قد وقع القول عليهم ف { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل } [ الأنعام : 158 ] . وحمل هذه الجملة على أن تكون حكاية لما تكلمهم به الدابة بعيد .