{ الذي خلق سبع سماوات طباقا } طبقاً على طبق بعضها فوق بعض ، { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } قرأ حمزة والكسائي : من تفوت بتشديد " الواو " بلا ألف ، وقرأ الآخرون بتخفيف " الواو " وألف قبلها ، وهما لغتان كالتحمل والتحامل ، والتظهر والتظاهر . ومعناه : ما ترى يا ابن آدم في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض ، بل هي مستقيمة مستوية . وأصله من الفوت وهو أن يفوت بعضها بعضاً لقلة استوائها ، { فارجع البصر } كرر النظر ، معناه : انظر ثم ارجع ، { هل ترى من فطور } شقوق وصدوع .
ثم قال : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي : طبقة بعد طبقة ، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض ، أو متفاصلات بينهن خلاء ؟ فيه قولان ، أصحهما الثاني ، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره .
وقوله : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } أي : بل هو مصطحب مستو ، ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة ، ولا نقص ولا عيب ولا خلل ؛ ولهذا قال : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : انظر إلى السماء فتأملها ، هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خللا ؛ أو فطورًا ؟ .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والثوري ، وغيرهم في قوله : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : شقوق .
وقال السدي : { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : من خُروق . وقال ابن عباس في رواية : { مِنْ فُطُورٍ } أي : من وُهِيّ{[29106]} وقال قتادة : { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : هل ترى خَلَلا يا ابن آدم ؟ .
و { طباقاً } قال الزجاج : هو مصدر ، وقيل : هو جمع طبقة أو جمع طبق مثل : رحبة ورحاب ، أو جمل وجمال ، والمعنى بعضها فوق بعض ، وقال أبان بن ثعلب : سمعت أعرابياً يذم رجلاً ، فقال : «شره طباق ، خيره غير با » وما ذكر بعض المفسرين في السماوات من أن بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا ضعيف كله ، ولم يثبت بذلك حديث ، ولا يعلم أحد من البشر حقيقة لهذا . وقوله تعالى : { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } معناه من قلة تناسب ، ومن خروج عن إتقان ، والأمر المتفاوت ، هو الذي يجاوز الحدود التي توجب له زيادة أو نقصاناً ، وقرأ جمهور القراء : «من تفاوت » ، وقرأ حمزة والكسائي وابن مسعود وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش : «من تفوت »{[11202]} وهما بمعنى واحد{[11203]} ، وقال بعض العلماء : { في خلق الرحمن } يعني به السماوات فقط ، وهي التي تتضمن اللفظ ، وإياها أراد بقوله : { هل ترى من فطور } ، وإياها أراد بقوله : { ينقلب إليك البصر } الآية ، قالوا وإلا ففي الأرض فطور ، وقال آخرون : { في خلق الرحمن } يعني به جميع ما في خلق الله تعالى من الأشياء ، فإنها لا تفاوت فيها ولا فطور ، جارية على غير إتقان ، ومتى كانت فطور لا تفسد الشيء المخلوق من حيث هو ذلك الشيء ، بل هي إتقان فيه ، فليست تلك المرادة في الآية .
صفة ثانية للذي بيده الملك ، أعقب التذكيرُ بتصرف الله بخلق الإِنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإِنسان وهي السماوات ، ومفيدةٌ وصفاً من عظيم صفات الأفعال الإلهية ، ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجُملُ الثلاث جارية على طريقة واحدة .
والسماوات تكرر ذكرها في القرآن ، والظاهر أن المراد بها الكواكب التي هي مجموع النظام الشمسي ما عدا الأرض ، كما تقدم عند قوله تعالى : { فسواهن سبع سماوات } [ سورة البقرة : 29 ] فإنها هي المشاهدة بأعين المخاطبين ، فالاستدلال بها استدلال بالمحسوس .
والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وُصفت به السماوات للمبالغة ، أي شديدة المطابقة ، أي مناسبة بعضها لبعض في النظام .
ويجوز أن تكون { طِباقاً } جمع طَبَق ، والطبَق المساوي في حالةٍ ما ، ومنه قولهم في المثَل : « وافَقَ شَنٌّ طبَقَه » .
والمعنى : أنها مرتفع بعضها فوق بعض في الفضاء السحيق ، أو المعنى : أنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرّك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا تَرْتَطِمُ ولا يتداخل سيرها .
وليس في قوله : { طباقاً } ما يقتضي أن بعضها مظروف لبعض لأن ذلك ليس من مفاد مادة الطباق ( فلا تَكُن طَبَاقاء ) .
وجاءت جملة { ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت } تقريراً لقوله : { خلق سبع سموات طباقاً } .
فإن نفي التفاوت يحقق معنى التطابق ، أي التماثل . والمعنى : ما ترى في خلق الله السماوات تفاوتاً . وأصل الكلام : ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمان من تفاوت فعبر بخلق الرحمان لتكون الجملة تذييلاً لمضمون جملة : { خلق سبع سماوات طباقاً } ، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها ، أي كانت السماوات طباقاً لأنها من خلق الرحمان ، وليس فيما خلق الرحمان من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات .
والتفاوت بوزن التفاعل : شدة الفَوت ، والفوت : البعد ، وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة .
ويقال : تفوَّت الأمر أيضاً ، وقيل : إن تفوَّت ، بمعنى حصل فيه عيب .
وقرأ الجمهور { من تفاوت } . وقرأه حمزة والكسائي وخلف { من تفوُّت } بتشديد الواو دون ألف بعد الفاء ، وهي مرسومة في المصحف بدون ألف كما هو كثير في رسم الفتحات المشبعة .
وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس .
والخطاب لغير معين ، أي لا تَرى أيها الرائي تفاوتاً .
والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب ، وذلك مُمكن لكل من يبصر ، قال تعالى : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها وما لها من فروج } [ ق : 6 ] فكأنه قال : ما تَرون في خلق الرحمان من تفاوت ، فيجوز أن يكون { خلق الرحمان } بمعنى المفعول كما في قوله تعالى : { هذا خَلْق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } [ لقمان : 11 ] ، ويراد منه السماوات ، والمعنى : ما ترى في السماوات من تفاوت ، فيكون العدول عن الضمير لتتأتى الإضافة إلى اسمه { الرحمان } المشعر بأن تلك المخلوقات فيها رحمة بالناس كما سيأتي .
ويجوز أن يكون { خلق } مصدراً فيشمل خلق السماوات وخلقَ غيرها فإن صنع الله رحمة للناس لو استقاموا كما صنع لهم وأوصاهم ، فتفيد هذه الجملة مفاد التذييل في أثناء الكلام على وجه الاعتراض ولا يكون إظهاراً في مقام الإِضمار .
والتعبير بوصف { الرحمان } دون اسم الجلالة إيماء إلى أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم ، لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت لكان ذلك التفاوت سبباً لاختلال النظام فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق ، قال تعالى : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] وقال : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق } [ يونس : 5 ] .
وأيضاً في ذلك الوصف تورك على المشركين إذْ أنكروا اسمه تعالى : { الرحمان } { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً } [ الفرقان : 60 ] .
وفرع عليه قوله : { فارجع البصر } الخ . والتفريع للتسبب ، أي انتفاء رؤية التفاوت ، جعل سبباً للأمر بالنظر ليكون نفي التفاوت معلوماً عن يقين دون تقليد للمخبِر .
ورَجْع البصر : تكريره والرجْع : العود إلى الموضع الذي يجاء منه ، وفِعل : رَجع يكون قاصراً ومتعدياً إلى مفعول بمعنى : أرْجَعَ ، فأرجع هنا فعل أمر من رجع المتعدي .
والرَّجع يقتضي سبق حلول بالموضع ، فالمعنى : أعِد النظر ، وهو النظر الذي دل عليه قوله : { ما تَرى في خلق الرحمان من تفاوت } أي أعد رؤية السماوات وأنها لا تفاوت فيها إعادة تحقيق وتبصر ، كما يقال : أعِدْ نَظَراً .
والخطاب في قوله : { ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت } وقوله : { فارجع البصر } الخ . خطاب لغير معين .
وصيغة الأمر مستعملة في الإرشاد للمشركين مع دلالته على الوجوب للمسلمين فإن النظر في أدلة الصفات واجب لمن عرض له داع إلى الاستدلال . والبصر مستعمل في حقيقته . والمراد به البصر المصحوب بالتفكر والاعتبار بدلالة الموجودات على موجدها .
وهذا يتصل بمسألة إيمان المقلد وما اختلف فيه من الرواية عن الشيخ أبي الحسن الأشعري .
والاستفهام في { هل ترى من فطور } تقريري ووقع ب { هل } لأن { هل } تفيد تأكيد الاستفهام إذ هي بمعنى ( قد ) في الاستفهام ، وفي ذلك تأكيد وحث على التبصر والتأمل ، أي لا تقتنع بنظرة ونظرتين ، فتقول : لم أجد فُطوراً ، بل كَرّر النظر وعاوده باحثاً عن مصادفة فطور لعلك تجده .
والفطور : جمع فَطْر بفتح الفاء وسكون الطاء ، وهو الشَق والصدع ، أي لا يسعك إلاّ أن تعترف بانتفاء الفطور في نظام السماوات فتراها ملتئمة محبوكة لا ترى في خلالها انشقاقاً ، ولذلك كان انفطار السماء وانشقاقها علامة على انقراض هذا العالم ونظامِه الشمسي ، قال تعالى :
{ وفُتحت السماء فكانت أبواباً } [ النبأ : 19 ] وقال : { إذا السماء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] .