اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ} (3)

قوله : { الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } .

يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ ، نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً .

وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ ، أو مفعول فعل مقدر .

وقوله : «طِباقَاً » صفة ل «سَبْعَ » ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جمع طبق ، نحو : جبل وجبال .

والثاني : أنه جمع طبقة ، نحو : رحبة ورحاب .

والثالث : أنه مصدر طابق ، يقال : طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً .

ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر ، أي : طوبقت طباقاً . من قولهم : طابق الفعل ، أي : جعله طبقةً فوق أخرى .

روي عن ابن عباس : «طِبَاقاً » ، أي : بعضها فوق بعض ، والملتصق منها أطرافها{[57322]} .

قال القرطبيُّ{[57323]} : وقيل : مصدر بمعنى المطابقة ، أي : خلق سبع سماواتٍ ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً ؛ لأنه مفعول ثان ، فيكون «خَلَقَ » بمعنى جعل وصيّر .

وقال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً ، فقال : شره طباق ، وخيره غير باق . ويجوز في غير القرآن «سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ » بالخفض على النَّعت ل «سماواتٍ » نظيره : { وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ }[ يوسف : 42 ] .

فصل في الدلالة على القدرة

قال ابن الخطيب{[57324]} : دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه .

أحدها : من حيث بقاؤها{[57325]} في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة .

وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص .

وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معينة .

ورابعها : كونها في ذواتها محدثة ، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة .

قوله : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } «تَفاوتٍ » هو مفعول «ترى » و «مِنْ » مزيدة فيه . وقرأ الأخوان{[57326]} : «تَفَوُّت » بتشديد الواو دون ألف .

قال القرطبيُّ{[57327]} : «وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه » .

والباقون : بتخفيفها بعد ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد ، قاله الفرَّاء{[57328]} .

وقال الأخفش : «تَفَاوُتٍ » أجود ؛ لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ، ولا يكادون يقولون : «تفوت » .

واختيار أبي عبيد : «تفوت » ، يقال : تفاوت الشيء إذا فات .

واحتج بما روي في الحديث : أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ .

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : «أمثلي يتفوت عليه في ماله » .

قال النحاس : وهذا مردود على أبي عبيد ، لأن «يتفوت » أي : يضاف في الحديث ، «تفاوُتٍ » في الآية أشبه ، كما يقال : تباين ، تفاوت الأمر إذا تباين ، أو تباعد ، أي : فات بعضها بعضاً نقله القرطبي{[57329]} .

وحكى أبو زيد : تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها .

[ والقياس ]{[57330]} : الضَّمُّ كالتقابل ، والفتح والكسر شاذان .

والتفاوت : عدم التناسب ؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر ، وهذه الجملة المنفية صفة لقوله : «طِبَاقاً » وأصلها : ما ترى فيهن ، فوضع مكان الضمير .

قوله : { ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ } تعظيماً لخلقهن ، وتنبيهاً على سبب سلامتهن ، وهو أنه خلق الرحمن ، قاله الزمخشري{[57331]} .

وظاهر هذا أنها صفة ل «طِبَاقاً » ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر ، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل .

وقال أبو حيَّان{[57332]} : الظَّاهر أنه مستأنفٌ ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض ، و «خَلق » مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف ، أي : في خلق الرحمن السماواتِ ، أو كل مخلوق ، وهو أولى ليعم ، وإن كان السياق مرشداً للأول .

فصل في معنى الآية :

والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ، ولا تناقض ، ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها ، وإن اختلفت صوره ، وقيل : المراد بذلك السماوات خاصة ، أي : ما ترى في خلق السماوات{[57333]} من عيب ، وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً ، فيقع الخَلَل لعدم استوائها ، يدل عليه قول ابن عباس : من تفرق .

وقال السديُّ : «مِنْ تفَاوُتٍ » أي : من اختلاف وعيب بقول{[57334]} الناظر : لو كان كذا كان أحسن .

وقيل : «التفاوت » الفطور ، لقوله بعد ذلك : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ }[ ق : 65 ] .

قال القفَّالُ - رحمه الله - : ويحتمل أن يكون المعنى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } في الدلالة على حكم الصانع ، وأنه لم يخلقها عبثاً .

فصل في الخطاب في الآية لمن ؟

الخطاب في قوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب ، وكذا القول في قوله { فارجع البصر } ، { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } .

فصل فيما تدل عليه الآية :

دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه ، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان ، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً ، فلا بد وأن يكون عالماً ، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إشارة إلى كونها محكمة متقنة .

فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله :

احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله ، قال{[57335]} : - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص ، والعيب ، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة ، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل ، وبعضه سفه . والجواب : أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية ، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً .

فصل في السماوات السَّبع :

روى البغويُّ{[57336]} عن كعب - رضي الله عنه - أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية : مرمرة بيضاء ، والثالثة : حديد ، والرابعة ، صُفْرٌ ، وقال : نحاس ، والخامسة : فضّة ، والسادسة : ذهب ، والسَّابعة : ياقوتة حمراء ، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور{[57337]} .


[57322]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/382) وعزاه إلى عبد بن حميد عن ابن عباس.
[57323]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/136.
[57324]:ينظر: الفخر الرازي 30/50.
[57325]:يعني السماء.
[57326]:ينظر: السبعة 644، والحجة 6/305، وإعراب القراءات 2/378، وحجة القراءات 715، والعنوان 194، وشرح الطيبة 6/63، وشرح شعلة 604، وإتحاف 2/550.
[57327]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/136.
[57328]:ينظر: معاني القرآن 3/170.
[57329]:ينظر: القرطبي 18/136.
[57330]:في أ: والأفصح.
[57331]:ينظر: الكشاف 4/576.
[57332]:ينظر: البحر المحيط 8/292.
[57333]:في أ: الرحمن.
[57334]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/382) وعزاه إلى ابن المنذر عن السدي.
[57335]:ينظر: الفخر الرازي 30/51.
[57336]:ينظر: معالم التنزيل 4/370.
[57337]:ينظر المصدر السابق.