قوله : { الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } .
يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ ، نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً .
وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ ، أو مفعول فعل مقدر .
وقوله : «طِباقَاً » صفة ل «سَبْعَ » ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جمع طبق ، نحو : جبل وجبال .
والثاني : أنه جمع طبقة ، نحو : رحبة ورحاب .
والثالث : أنه مصدر طابق ، يقال : طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً .
ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر ، أي : طوبقت طباقاً . من قولهم : طابق الفعل ، أي : جعله طبقةً فوق أخرى .
روي عن ابن عباس : «طِبَاقاً » ، أي : بعضها فوق بعض ، والملتصق منها أطرافها{[57322]} .
قال القرطبيُّ{[57323]} : وقيل : مصدر بمعنى المطابقة ، أي : خلق سبع سماواتٍ ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً ؛ لأنه مفعول ثان ، فيكون «خَلَقَ » بمعنى جعل وصيّر .
وقال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً ، فقال : شره طباق ، وخيره غير باق . ويجوز في غير القرآن «سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ » بالخفض على النَّعت ل «سماواتٍ » نظيره : { وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ }[ يوسف : 42 ] .
قال ابن الخطيب{[57324]} : دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه .
أحدها : من حيث بقاؤها{[57325]} في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة .
وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص .
وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معينة .
ورابعها : كونها في ذواتها محدثة ، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة .
قوله : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } «تَفاوتٍ » هو مفعول «ترى » و «مِنْ » مزيدة فيه . وقرأ الأخوان{[57326]} : «تَفَوُّت » بتشديد الواو دون ألف .
قال القرطبيُّ{[57327]} : «وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه » .
والباقون : بتخفيفها بعد ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد ، قاله الفرَّاء{[57328]} .
وقال الأخفش : «تَفَاوُتٍ » أجود ؛ لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ، ولا يكادون يقولون : «تفوت » .
واختيار أبي عبيد : «تفوت » ، يقال : تفاوت الشيء إذا فات .
واحتج بما روي في الحديث : أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ .
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : «أمثلي يتفوت عليه في ماله » .
قال النحاس : وهذا مردود على أبي عبيد ، لأن «يتفوت » أي : يضاف في الحديث ، «تفاوُتٍ » في الآية أشبه ، كما يقال : تباين ، تفاوت الأمر إذا تباين ، أو تباعد ، أي : فات بعضها بعضاً نقله القرطبي{[57329]} .
وحكى أبو زيد : تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها .
[ والقياس ]{[57330]} : الضَّمُّ كالتقابل ، والفتح والكسر شاذان .
والتفاوت : عدم التناسب ؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر ، وهذه الجملة المنفية صفة لقوله : «طِبَاقاً » وأصلها : ما ترى فيهن ، فوضع مكان الضمير .
قوله : { ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ } تعظيماً لخلقهن ، وتنبيهاً على سبب سلامتهن ، وهو أنه خلق الرحمن ، قاله الزمخشري{[57331]} .
وظاهر هذا أنها صفة ل «طِبَاقاً » ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر ، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل .
وقال أبو حيَّان{[57332]} : الظَّاهر أنه مستأنفٌ ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض ، و «خَلق » مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف ، أي : في خلق الرحمن السماواتِ ، أو كل مخلوق ، وهو أولى ليعم ، وإن كان السياق مرشداً للأول .
والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ، ولا تناقض ، ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها ، وإن اختلفت صوره ، وقيل : المراد بذلك السماوات خاصة ، أي : ما ترى في خلق السماوات{[57333]} من عيب ، وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً ، فيقع الخَلَل لعدم استوائها ، يدل عليه قول ابن عباس : من تفرق .
وقال السديُّ : «مِنْ تفَاوُتٍ » أي : من اختلاف وعيب بقول{[57334]} الناظر : لو كان كذا كان أحسن .
وقيل : «التفاوت » الفطور ، لقوله بعد ذلك : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ }[ ق : 65 ] .
قال القفَّالُ - رحمه الله - : ويحتمل أن يكون المعنى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } في الدلالة على حكم الصانع ، وأنه لم يخلقها عبثاً .
الخطاب في قوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب ، وكذا القول في قوله { فارجع البصر } ، { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } .
دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه ، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان ، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً ، فلا بد وأن يكون عالماً ، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إشارة إلى كونها محكمة متقنة .
فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله :
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله ، قال{[57335]} : - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص ، والعيب ، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة ، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل ، وبعضه سفه . والجواب : أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية ، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً .
روى البغويُّ{[57336]} عن كعب - رضي الله عنه - أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية : مرمرة بيضاء ، والثالثة : حديد ، والرابعة ، صُفْرٌ ، وقال : نحاس ، والخامسة : فضّة ، والسادسة : ذهب ، والسَّابعة : ياقوتة حمراء ، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور{[57337]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.