ولما أثبت له سبحانه صفتي العز والغفر{[66693]} على أبلغ ما يكون ، دل على ذلك بقوله دالاً على كمال تفرده بعد آيات الأنفس ، بآيات الآفاق إرشاداً إلى معالي الأخلاق : { الذي خلق } أي أبدع على{[66694]} هذا التقدير من غير مثال سبق { سبع سماوات } حال كونها { طباقاً } جمع طبق كل واحدة منها كأنها لشدة مطابقتها للأخرى طالبة مطابقتها بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ، ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك{[66695]} وهي لا تكون كذلك إلا بأن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب ، والثانية محيطة بالدنيا و{[66696]}هكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكل ، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة ، فما ظنك بما تحته ، وكل سماه في التي فوقها بهذه النسبة ، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك ، وليس في الشرع ما يخالفه ، بل ظواهره توافقه ، ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة{[66697]} في فلاة كما مضى بسط ذلك في سورة السجدة ، وأحاط سبحانه بالأرض منافعها من جميع الجوانب ، وجعل المركز بحيث يجذب إليه الأسفل ، فكيفما مشى الحيوان في{[66698]} جوانبها اقتضى المركز أن تكون رجلاه إلى الأرض ورأسه إلى السماء لتكون السماء في رأيه دائماً أعلى ، والأرض أسفل في أي جانب كان هو عليها ، فسبحان اللطيف الخبير ، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأه {[66699]}فيها لنا{[66700]} من المنافع ، آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد ، فانقطع{[66701]} باللجاء إليه ولم يعول{[66702]} إلا عليه في كل {[66703]}دفع ونفع{[66704]} ، وسارع في مراضيه{[66705]} ومحابه في كل خفض ورفع .
ولما كان ذلك{[66706]} في حد ذاته خارجاً عن طوق المخلوق ، وكان سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما{[66707]} بين كل سمائين كذلك ، مع عدم الفروج والعمد والأطناب ، {[66708]}فكان ذلك{[66709]} النهاية في الخروج عن العادة في حد ذاته ولأنه قيل : إن القبة إذا بنيت بلا فروج ولا شيء يدخل{[66710]} الهواء منه تفسد وتسقط ، دل على عزته بعظيم صنعه في ذلك بقوله واصفاً لها : { ما ترى في } وكان الأصل : خلقها ، ولكنه{[66711]} دل على عزته وعموم عظمته بقوله : { خلق الرحمن } أي لها ولغيرها ولولا{[66712]} رحمته وعموم عظمته{[66713]} التي اقتضت إكرامه لخلقه بعد غفرانه لما لهم من النقائص ، ما أحسن إليهم بها{[66714]} في اتساعها{[66715]} وزينتها وما فيها من المنافع . وأعرق في النفي بقوله : { من تفاوت } بين صغير{[66716]} ذلك الخلق وكبيره بالنسبة إلى الخالق في إيجاده له على حد سواء ، إنما قوله له{[66717]} إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فلا فرق{[66718]} في ذلك بين الذرة مثلاً والغرس ، ولا بالنسبة إلى الخالق من عجز صغيرهم وكبيرهم عن إيجاد شيء من العدم صغيراً كان أو كبيراً جليلاً كان أو حقيراً . ولا ترى تفاوتاً في الخلق بأن {[66719]}يكون شيء منه{[66720]} فائتاً للآخر{[66721]} بالمخالفة والاضطراب والتناقض في الخلقة غير مناسب له بأن يكون خارجاً عنه أو منافراً له في مقتضى الحكمة ، وآثار الإحسان في الصنعة ، والنزول عن الإتقان والاتساق ، والخروج عن الإحكام والاتفاق ، والدلالة للخالق على كمال القدرة وللمخلوق على الحدوث بنوع من ضعف البنية بحيث يكون كل{[66722]} واحد كالطالب لأن يخالف الآخر ، أو تعمد لأن يفوت الآخر ويخالفه - على قراءة حذف الألف والتشديد بحيث يكون التفاضل{[66723]} في المزدوجات وعدم المساواة كأنه مقصود بالذات وبالقصد الأول ، بل لا توجد المخالفة إلا نادراً بحيث يعلم أن المشاكلة هي المقصود بالذات {[66724]}وبالقصد الأول ، فإذا وقع في شيء منه مخالفة كان على وجه الندور ليعلم أنه ليس مقصوداً بالذات{[66725]} ، وإنما أريد به الدلالة على الاختيار ، وأن الفاعل هو القادر المختار لا الطبيعة ، قال الرازي : كأن التفاوت الشيء المختلف لأعلى النظام ، وقال{[66726]} البغوي : من اعوجاج واختلاف وتناقض ، وقال غيره : عدم{[66727]} التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه ، وهو من الفوت وهو أن يفوت بعضها بعضاً لقلة استوائها ، وقال أبو حيان{[66728]} : والتفاوت {[66729]}تجاوز الحد{[66730]} الذي يجب له زيادة أو نقصان - انتهى .
يظهر ذلك بأن أغلب{[66731]} الخلق أجوف ، والأجوف يعمل مبسوطاً ثم يضم ويوصل أحد جانبيه بالآخر فيكون ثم نوع فطر{[66732]} يعرفه أهل الحذق وإن اجتهد صانعه في إخفائه ، وإن كان فيه أشياء متقابلة كان فيها تفاوت ولو قل وإن اجتهد الصانع في المساواة ، وخلق الله لا تفاوت فيه بوجه ، فالسماوات كرية ولا ترى {[66733]}في جانب منها{[66734]} شقاً ولا فطراً ظاهراً ولا خفياً ، والحيوان أجوف{[66735]} ولا ترى في شيء من جسده فصماً يكون الضم والتجويف وقع به وكل من متقابليه مساو للأخر ، كالعينين والأذنين والمنخرين والساقين ونحوها مما يقصد فيه التساوي لا تفاوت فيه أصلاً - إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن ضبطه ، فسبحان من لا تتناهى قدرته فلا تتناهى مقدوراته ، ولا تحصى بوجه معلوماته ، وكل ذلك عليه هين ، والأمر في ذلك واضح بين ، هذا{[66736]} مع الاتساع الذي لا يدرك مقداره بأكثر من أن{[66737]} كل سماء بالنسبة إلى التي فوقها كحلقة ملقاة في فلاة إلى أن يوصل إلى الكرسي ثم العرش العظيم ، ومن سر كونها كذلك حصول النفع بكل ما فيها من كواكب{[66738]} مرطبة أو ميبسة أو منورة ، واتصالات ممطرة ومثبتة يجري كل ذلك منها على ترتيب مطرد ، ونظام غير منخرم مقدر جريه بالقسط مرتب{[66739]} على منافع الوجود ومصالح الكائنات ، كلها مكفوفة على هواء لطيف بتدبير شريف{[66740]} : لا يتعدى شيء منها طوره ولا يتخطى حده ، ولا يرسب فيها تحته من الهواء فيهوي ، ولا يرتفع عن محله بمقدار ذرة فيطفو ، قد أحاط بكلها الأمر{[66741]} ، وضبطها صاغرة القهر .
ولما كان العلم الناشىء عن الحسن أجل{[66742]} العلوم ، دل على بديع ما ذكره بمشاهدة الحس له كذلك ، فسبب عنه قوله منبهاً بالرجع الذي هو تكرير الرجوع على أن كل أحد يشاهد ذلك كذلك من حين يعقل إلى أن يبلغ حد التكليف المقتضي للمخاطبة بهذا الكلام{[66743]} : { فارجع البصر } أي بعد ترديدك له قبل ذلك ، ودل بتوجيه{[66744]} الخطاب نحو أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم في السمع والبصر والبصيرة وكل معنى إلى أن ذلك لا شبهة فيه .
ولما كان السؤال عن{[66745]} الشيء يدل على شدة الاهتمام بالبحث عنه ، نبه{[66746]} على أن هذا{[66747]} مما اشتدت عناية الأولين به فقال : { هل ترى } أي في شيء منها .
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي ، أعرق في النفي{[66748]} بقوله : { من فطور * } أي خلل بشقوق وصدوع أو غيرها لتغاير ما هي{[66749]} عليه وأخبرت به من تناسبها و{[66750]}استجماعها واستقامتها{[66751]} ما يحق لها مما يدل على عزة ما فيها وبليغ غفرانه ، وهذا أيضاً يدل على إحاطة كل{[66752]} منها بما دونه ، فإنه لو كان لها{[66753]} فروج لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها{[66754]} أو بعضها أو كمالها ، فالهواء وجميع المنافع منحبسة{[66755]} فيها محوطة بها{[66756]} مضطربة متصرفة{[66757]} فيها على حسب التدبير ، والحيوان في الهواء كالسمك في الماء ، لو انحبس الهواء عنه لمات كما أنه لو انكشف الماء عن السمك لمات{[66758]} .