المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

2- يا أيها الذين آمنوا : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي إذا تكلم وتكلمتم ، ولا تساووا أصواتكم بصوته - كما يخاطب بعضكم بعضاً - كراهة أن تبطل أعمالكم وأنتم لا تشعرون ببطلانها .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضاً ، { أن تحبط أعمالكم } لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ، { وأنتم لا تشعرون } .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : " لما نزلت هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } الآية ، جلس ثابت ابن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فسأل محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : أبا عمرو : ما شأن ثابت أيشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : بل هو من أهل الجنة " . وروي أنه " لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وغلب ثابتاً البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني محمد صلى الله عليه وسلم ، فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأنزل الله :{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله } الآية . قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا ، واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يستن به في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ، فأت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وأت أبا بكر خليفة النبي صلى الله عليه وسلم وقل له : إن علي ديناراً حتى يقضيه عني وفلان وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه له ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته . قال مالك بن أنس : لا أعلم وصيةً أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه . قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار . وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين يغضون أصواتهم } يخفضون أصواتهم عند النبي إجلالا له " . { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه . { لهم مغفرة وأجر عظيم* }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } : هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم [ فوق صوته ]{[27022]} . وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما .

وقال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال : كاد الخيِّران أن يهلكا ، أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر - قال نافع : لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . قال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } الآية ، قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه : يعني أبا بكر رضي الله عنه . انفرد به دون مسلم{[27023]} .

ثم قال البخاري : حدثنا حسن بن محمد ، حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيْج ، حدثني ابن أبي مليكة : أن عبد الله بن الزبير أخبره : أنه قَدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمرّ القعقاعَ بن مَعْبد . وقال عمر : بل أمرّ الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلى - أو : إلا - خلافي . فقال عمر : ما أردتُ خلافَك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، حتى انقضت الآية ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } الآية [ الحجرات : 5 ] .

وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا{[27024]} .

وقال{[27025]} الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حصين بن عُمَر ، عن مُخَارق ، عن طارق بن شهاب ، عن أبى بكر الصديق قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ، قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السّرار{[27026]} .

حصين بن عمر هذا - وإن كان ضعيفًا - لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة [ رضي الله عنه ]{[27027]} بنحو ذلك ، والله أعلم{[27028]} .

وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا أزهر بن سعد ، أخبرنا ابن عون ، أنبأني موسى بن أنس{[27029]} ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس ، فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه . فأتاه فوجده في بيته مُنَكِّسًا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر ، كان يَرْفَعُ صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد حبط عمله ، فهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ، قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال : " اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة " تفرد به البخاري من هذا الوجه{[27030]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا {[27031]} سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى : { وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في أهله حزينا ، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأجهر له بالقول حبط عملي ، أنا من أهل النار . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال ، فقال : " لا بل هو من أهل الجنة " . قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة . فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف ، فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه ، فقال : بئسما تُعوّدون أقرانكم . فقاتلهم حتى قُتل{[27032]} {[27033]} .

وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } إلى آخر الآية ، جلس ثابت في بيته ، قال : أنا من أهل النار . واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال{[27034]} النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ : " يا أبا عمرو ، ما شأن ثابت ؟ أشتكى ؟ " فقال سعد : إنه لجاري ، وما علمت له بشكوى . قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله {[27035]} صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أُنزلَت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنا من أهل النار . فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل ، هو من أهل الجنة " .

ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد {[27036]} الدارمي ، عن حَيَّان بن هلال ، عن سليمان بن المغيرة ، به ، قال : ولم يذكر سعد بن معاذ . وعن قطن بن نُسَير عن جعفر بن سليمان{[27037]} ، عن ثابت ، عن أنس بنحوه . وقال : ليس فيه ذكر سعد بن معاذ .

حدثنا هُرَيم{[27038]} بن عبد الأعلى الأسدي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يذكر ، عن ثابت ، عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية ، واقتص الحديث ، ولم يذكر سعد بن معاذ ، وزاد : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رَجلٌ من أهل الجنة . {[27039]} .

فهذه الطرق الثلاث مُعَلّلة لرواية حماد بن سلمة ، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ . والصحيح : أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودًا ؛ لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس ، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم ، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة ، والله أعلم .

وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شمَّاس ، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ، عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية : { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } قال : قعد ثابت بن قيس{[27040]} في الطريق يبكي ، قال : فمر به عاصم بن عدي من بني العَجلان ، فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ قال : هذه الآية ، أتخوف أن تكون نزلت فيَّ وأنا صيت ، رفيع الصوت . قال : فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وغلبه البكاء ، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها : إذا دخلتُ بيت فَرَسي فشدّي عَلَيّ الضبَّة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله ، عز وجل ، أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وأتى عاصم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره ، فقال : " اذهب فادعه لي " . فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفَرَس ، فقال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك . فقال : اكسر الضبة . قال : فخرجا فأتيا{[27041]} النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا ثابت ؟ " . فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في : { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ } . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ترضى أن تَعِيش حَميدًا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ " . فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } {[27042]} . {[27043]}

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك ، فقد نهى الله عز وجل ، عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[27044]} أنه سمع صَوت رجلين في مسجد رسول الله{[27045]} صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء ، فقال : أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال : مِن أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف . فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا{[27046]} .

وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره ، كما كان يكره في حياته ؛ لأنه محترم حيا وفي قبره ، صلوات الله وسلامه عليه{[27047]} ، دائما . ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ؛ ولهذا قال : { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، كما قال : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [ النور : 63 ] .

وقوله : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } أي : إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بَالا يكتب له بها الجنة . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلقي لها بالا يَهْوِي بها في النار أبعد ما بين السموات والأرض " {[27048]} .


[27022]:- (1) زيادة من ت، م، أ.
[27023]:- (2) صحيح البخاري برقم (4845).
[27024]:- (3) صحيح البخاري برقم (4847).
[27025]:- (4) في ت: "وروى".
[27026]:- (5) مسند البزار برقم (2257) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلمه يروى متصلا إلا عن أبي بكر، وحصين حدث بأحاديث لم يتابع عليها، ومخارق مشهور، ومن عداه أجلاء".
[27027]:- (1) زيادة من أ.
[27028]:- (2) أما حديث أبي هريرة فرواه الحاكم في المستدرك (2/462) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه، وقال: "صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
[27029]:- (3) في ت: "وروى البخاري بسنده".
[27030]:- (4) صحيح البخاري برقم (4846).
[27031]:- (5) في ت: "ابن".
[27032]:- (6) في ت: "حتى قتل رحمه الله".
[27033]:- (7) المسند (3/137).
[27034]:- (8) في م: "فسأل".
[27035]:- (9) في م: "النبي".
[27036]:- (1) في أ: "سعد".
[27037]:- (2) في م: "مسلم".
[27038]:- (3) في م: "هدبة".
[27039]:- (4) صحيح مسلم برقم (119).
[27040]:- (5) في أ: "ثابت بن قيس بن شماس".
[27041]:- (6) في أ: "حتى أتيا".
[27042]:- (7) في أ: بعدها: " لهم مغفرة وأجر عظيم " بدل "الآية".
[27043]:- (8) تفسير الطبري (26/75).
[27044]:- (1) زيادة من ت.
[27045]:- (2) في ت، م: "النبي".
[27046]:- (3) رواه البخاري في صحيحه برقم (470) من طريق السائب بن يزيد فذكره.
[27047]:- (4) في ت: "صلى الله عليه وسلم".
[27048]:- (5) صحيح البخاري برقم (6478) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته . { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب ومراعاة للأدب . وقيل معناه ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول ، وتكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار والمبالغة في الاتعاظ والدلالة على استقلال المنادى له وزيادة الاهتمام به . { أن تحبط أعمالكم } كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي ، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر والرفع استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط ، وذلك إذ انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة . وقد روي : أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر وكان جهوريا ، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفقده ودعاه فقال : يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لست هناك إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة " . { وأنتم لا تشعرون } أنها محبطة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا } الآية هي أيضاً في ذلك الفن المتقدم ، وروى حيح أنها نزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت والعنجهية ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه في صوته جهارة ، فلما نزلت هذه الآية اهتم وخاف على نفسه وجلس في بيته لم يخرج ، وهو كئيب حزين حتى عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فبعث فيه فأنسه وقال له : «امش في الأرض بسطاً فإنك من أهل الجنة »{[10446]} . وقال له مرة : «أما ترضى أن تعيش حميداً وتموت شهيداً » فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة يوم مسيلمة{[10447]} .

وفي قراءة ابن مسعود : «لا ترفعوا بأصواتكم » بزيادة الباء .

وقوله : { كجهر بعضكم لبعض } أي كحال جهركم في جفائه وكونه مخاطبة بالأسماء والألقاب ، وكانوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم . با محمد يا محمد ، قاله ابن عباس وغيره ، فأمرهم الله بتوقيره ، وأن يدعوه بالرسالة والنبوءة والكلام اللين ، فتلك حالة الموقر ، وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم . وبحضرة العالم وفي المساجد ، وفي هذه كلها آثار .

وقوله تعالى : { أن تحبط } مفعول من أجله ، أي مخافة { أن تحبط } ، والحبط : إفساد العمل بعد تقرره ، يقال حبِط بكسر الباء وأحبطه الله ، وهذا الحبط إن كانت الآية معرضة بمن يفعل ذلك استخفافاً واستحقاراً وجرأة فذلك كفر . والحبط معه على حقيقته ، وإن كان التعريض للمؤمن الفاضل الذي يفعل ذلك غفلة وجرياً على طبعه ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك ، فكأنه قال : أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها . ويحتمل أن يكون المعنى : أن تأثموا ويكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم ، فلا تزال معتقداتكم تتجرد القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فتحبط الأعمال حقيقة . وظاهر الآية أنها مخاطبة لفضلاء المؤمنين الذين لا يفعلون ذلك احتقاراً ، وذلك أنه لا يقال لمنافق يعمل ذلك جرأة وأنت لا تشعر ، لأنه ليس له عمل يعتقده هو عملاً . وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «فتحبط أعمالكم » .


[10446]:رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، رواه البخاري من حديث موسى بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك عِلمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله وهو من أهل النار، (وهذا التفات من الحاضر إلى الغائب، والأصل: كنت أرفع صوتي)، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى: فرجع إليه المرة الأخيرة ببشارة عظيمة، فقال:(اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة)، ورواه مسلم من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك وأورده السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته إلى الإمام أحمد، وأبي يعلى في معجم الصحابة، والطبراني، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أنس بن مالك.
[10447]:هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، يكنى أبا محمد، وقيل: أبا عبد الرحمن، قُتل له ثلاثة من أولاده يوم الحرة، وهم: محمد، ويحيى، وعبد الله، وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك، كان يقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقال لحسان بن ثابت: شارع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خطب يوم قدم وفد بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة جزلة، كما قال حسان بن ثابت قصيدة رد بها على الأقراع بن حابس شاعر بني تميم، فقال الوفد: خطيبهم أخطب من خطيبنا، وشاعرهم أشعر من شاعرنا، وفي يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، وفي اللقاء انكشف المسلمون فقال ثابت ومعه سالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهم حفرة فثبتا وقاتلا حتى قُتلا، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، وبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له:أوصيك بوصية، فإياك أن تقول: هذا حلم فتضيعه، إني لما قُتلت جاء رجل من المسلمين فأخذ درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس يستن-يعدو إقبالا وإدبارا في طِوله- والطِّول: الحبل الطويل يُشد أحد طرفيه في وتد والطرف الآخر في رجل الفرس- وقد كفأ على الدرع بُرمة، وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم-يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه- فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فاتى الرجل خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع فأحضرها، وحدّث أبا بكر رضي الله عنه برؤياه فأجازها الصديق، قيل: ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس رضي الله عنه.(راجع الاستيعاب؛ والإصابة والدر المنثور).