قوله تعالى : { وجاؤوا على قميصه بدم كذب } ، أي : بدم هو كذب ، لأنه لم يكن دم يوسف . وقيل : بدم مكذوب فيه ، فوضع المصدر موضع الاسم . وفي القصة : أنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه ، فقال يعقوب عليه السلام : كيف أكله الذئب ولم يشق قميصه ؟ فاتهمهم . { قال بل سولت } زينت ، { لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل } ، معناه : فأمري صبر جميل أو فعلي صبر جميل . وقيل : فصبر جميل أختاره . والصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا جزع . { والله المستعان على ما تصفون } ، أي : أستعين بالله على الصبر ، على ما تكذبون . وفي القصة : أنهم جاءوا بذئب وقالوا هذا الذي أكله فقال له يعقوب يا ذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي ؟ فأنطقه الله عز وجل ، فقال : تالله ما رأيت وجه ابنك قط . قال : كيف وقعت بأرض كنعان ؟ . قال : جئت لصلة قرابة فصادني هؤلاء فمكث يوسف في البئر ثلاثة أيام .
{ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } أي : مكذوب مفترى . وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيدة ، وهو أنهم عمدوا إلى سَخْلة - فيما ذكره مجاهد ، والسدي ، وغير واحد - فذبحوها ، ولطخوا ثوب يوسف بدمها ، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب ، وقد أصابه من دمه ، ولكنهم نسوا أن يخرقوه ، فلهذا لم يَرُج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب ، بل قال لهم معرضًا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من تمالئهم عليه : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي : فسأصبر صبرًا جميلا على هذا الأمر الذي قد اتفقتم عليه ، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه ، { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : على ما تذكرون من الكذب والمحال .
وقال الثوري ، عن سِمَاك ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال : لو أكله السبع لخرق القميص . وكذا قال الشعبي ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد .
وقال مجاهد : الصبر الجميل : الذي لا جزع فيه .
وروى هُشَيْم ، عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبَّان بن أبي جَبَلة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } فقال : " صبر لا شكوى{[15087]} فيه " وهذا مرسل{[15088]} .
وقال عبد الرزاق : قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال : ثلاث من الصبر : ألا تحدث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكي نفسك{[15089]} .
وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة ، رضي الله عنها ، في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف{[15090]} { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } {[15091]} .
{ وَجَآءُوا عَلَىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : { وَجاءُوا على قَمِيصَهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ، وسماه الله كذبا ؛ لأن الذين جاءوا بالقميص وهو فيه كذبوا ، فقالوا ليعقوب : هو دم يوسف ، ولم يكن دمه ، وإنما كان دم سخلة فيما قيل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَجاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : دم سخلة .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَجاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : دم سخلة شاة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { بِدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : دم سخلة ، يعني : شاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : بِدَمٍ كَذِبٍ قال : دم سخلة شاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { بِدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : كان ذلك الدم كذبا ، لم يكن دم يوسف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { بِدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : دم سخلة شاة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { بِدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : بدم سخلة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : ذبحوا جديا من الغنم ، ثم لطخوا القميص بدمه ، ثم أقبلوا إلى أبيهم ، فقال يعقوب : إن كان هذا الذئب لرحيما . كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه . يا بنيّ يا يوسف ، ما فعل بك بنو إماء ؟
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَجاءُوا على قَميصِهِ بدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : لو أكله السبع لخرق القميص .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا أبو خالد ، قال : حدثنا سفيان بإسناده عن ابن عباس مثله ، إلا أنه قال : لو أكله الذئب لخرق القميص .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَجاءُوا على قَميصِهِ بدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : لو كان الذئب أكله لخرقه .
حدثني عبيد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا عثمان بن عمرو ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، قال : جيء بقميص يوسف إلى يعقوب ، فجعل ينظر إليه ، فيرى أثر الدم ولا يرى فيه خرقا ، قال : يا بنيّ ، ما كنت أعهد الذئب حليما
حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاري ، قال : حدثنا أبو عاصم العقدي ، عن قرة ، قال : سمعت الحسن يقول : لما جاءوا بقميص يوسف ، فلم ير يعقوب شَقّا ، قال : يا بنيّ ، والله ما عهدت الذئب حليما .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عمران بن مسلم ، عن الحسن ، قال : لما جاء إخوة يوسف بقميصه إلى أبيهم ، قال : جعل يقلبه ، فيقول : ما عهدت الذئب حليما ، أكل ابني وأبقى على قميصه !
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَجاءُوا على قَميصِهِ بدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : لما أتوا نبيّ الله يعقوب بقميصه ، قال : ما أرى أثر سبع ولا طعن ولا خرق !
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { بِدَمٍ كَذِبٍ } : الدم كذب ، لم يكن دم يوسف .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مجاهد ، عن الشعبيّ ، قال : ذبحوا جديا ، ولطخوه من دمه ، فلما نظر يعقوب إلى القميص صحيحا ، عرف أن القوم كذبوه ، فقال لهم : إن كان هذا الذئب لحليما ، حيث رحم القميص ولم يرحم ابني . فعرف أنهم قد كذبوه .
حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَجاءُوا على قَميصِهِ بدَمٍ كَذِبٍ } ، قال : لما أتي يعقوب بقميص يوسف ، فلم ير فيه خرقا ، قال : كذبتم ، لو أكله السبع لخرق قميصه !
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، ويعلى ، عن زكريا ، عن سماك ، عن عامر ، قال : كان في قميص يوسف ثلاث آيات حين جاءوا على قميصه بدم كذب . قال : وقال يعقوب : لو أكله الذئب لخرق قميصه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا زكريا ، عن سماك ، عن عامر ، قال : إنه كان يقول : في قميص يوسف ثلاث آيات ، حين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيرا ، وحين قُدّ من دبر ، وحين جاءوا على قميصه بدم كذب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عامر ، قال : كان في قميص يوسف ثلاث آيات : الشقّ ، والدم ، وألقاه على وجه أبيه فارتدّ بصيرا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، قال : لما جيء بقميص يوسف إلى يعقوب ، فرأى الدم ولم ير الشقّ ، قال : ما عهدت الذئب حليما !
قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، بمثله .
فإن قال قائل : كيف قيل : { بِدَمٍ كَذِبٍ } ، وقد علمت أنه كان دما لا شكّ فيه ، وإن لم يكن كان دم يوسف ؟ قيل : في ذلك من القول وجهان : أحدهما : أن يكون قيل : { بِدَمٍ كَذِبٍ } ؛ لأنه كُذبَ فيه ، كما يقال : الليلة الهلال ، وكما قيل : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ } ، وذلك قول كان بعض نحويي البصرة يقوله .
والوجه ا لآخر : وهو أن يقال : هو مصدر ، بمعنى : مفعول ، وتأويله : وجاءوا على قميصه بدم مكذوب ، كما يقال : ما له عقل ولا معقول ، ولا له جلد ولا له مجلود . والعرب تفعل ذلك كثيرا ، تضع " مفعولا " في موضع المصدر ، والمصدر في موضع " مفعول " ، كما قال الراعي :
حتى إذَا لَمْ يَتْرُكُوا لِعِظامِهِ *** لَحْما وَلا لِفُؤَادِهِ مَعْقُولا
وذلك كان يقوله بعض نحويي الكوفة .
وقوله : { قالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرا } ، يقول تعالى ذكره : قال يعقوب لبنيه الذين أخبروه أن الذئب أكل يوسف مكذّبا لهم في خبرهم ذلك : ما الأمر كما تقولون ، { بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرا } ، يقول : بل زينت لكم أنفسكم أمرا في يوسف ، وحسنته ، ففعلتموه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { قالَ بَلْ سَوّلَتْ لَكُمْ أنْفُسُكُمْ أمْرا } ، قال : يقول : بل زينت لكم أنفسكم أمرا .
وقوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ، يقول : فصبري على ما فعلتم بي في أمر يوسف صبر جميل ، أو فهو صبر جميل . { وَاللّهُ المسْتَعانُ على ما تَصِفُونَ } ، يقول : واللّهَ أستعين على كفايتي شرّ ما تصفون من الكذب . وقيل : إن الصبر الجميل : هو الصبر الذي لا جزع فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ، قال : ليس فيه جزع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : { فصبر جميل } : في غير جزع .
. . . . قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
. . . . . قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، أخبرنا هشيم ، عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فصبر جميل } ، قال : صبر لا شكوى فيه . قال : من بثّ فلم يصبر .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله : { فصبر جميل } ، قال : صبر لا شكوى فيه .
. . . قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { فصبر جميل } : ليس فيه جزع .
حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد في قوله : { فصبر جميل } : قال : في غير جزع .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن بعض أصحابه قال : يقال : ثلاث من الصبر : أن لا تحدِّث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكّي نفسك .
قال أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت : أن يعقوب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد سقط حاجبَاه ، فكان يرفعهما بخرقةٍ ، فقيل له : ما هذا ؟ قال : طول الزمان ، وكثرة الأحزان ! فأوحى الله تبارك وتعالى إليه : يا يعقوب ، أتشكوني ؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي .
وقوله : { والله المستعان على ما تصفون } .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : { والله المستعان على ما تصفون } ، أي : على ما تكذبون .
وقوله تعالى : { وجاءوا على قميصه بدم كذب } الآية ، روي أنهم أخذوا سخلة{[6599]} أو جدياً فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف ، وقالوا ليعقوب : هذا قميصه ، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا أثر ناب .
فاستدل بذلك على كذبهم ، وقال لهم : متى كان الذئب حليماً ، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ - قص هذا القصص ابن عباس وغيره ، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص - واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها - في قول مالك - إلى غير ذلك .
قال الشافعي : كان في القميص ثلاث آيات : دلالته على كذبهم وشهادته في قده ، ورد بصر يعقوب به{[6600]} . وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئباً فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب ، هذا أكل يوسف ، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم .
ووصف الدم ب { كذب } إما على معنى بدم ذي كذب ، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه ، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر :
حتى إذا لم يتركوا لعظامه*** لحماً ولا لفؤادِهِ معقولا{[6601]}
فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب .
قال القاضي أبو محمد : هذا كلام الطبري ، ولا شاهد له فيه عندي ، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل ، ولا يحتاج إلى بدل ، وإنما «الدم الكذب » عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة .
وقرأ الحسن : «بدم كذب » بدال غير معجمة ، ومعناه الطري ونحوه ، وليست هذه القراءة قوية{[6602]} .
ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم : { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } أي رضيت وجعلت سولاً ومراداً54 { أمراً } أي صنعاً قبيحاً بيوسف . وقوله : { فصبر جميل } رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر : إما على تقدير : فشأني صبر جميل ، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل . وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب : «فصبراً جميلاً » على إضمار فعل ، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك - وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [ الرجز ]
. . . . . . . . صبرا جميلاً فكلانا مبتلى*** وينشد أيضاً بالرفع ويروى «صبر جميل » ، على نداء الجمل المذكور في قوله : [ الرجز ]
شكى إليّ جملي طول السرى*** يا جملي ليس إليّ المشتكى
صبر جميل فكلانا مبتلى*** وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه .
وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من بث لم يصبر صبراً جميلاً »{[6603]} .
وقوله : { والله المستعان على ما تصفون } تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه ، والتقدير على احتمال ما تصفون .
وجملة { وجاءوا على قميصه } في موضع الحال . ولما كان الدم ملطخاً به القميص وكانوا قد جاءوا مصاحبين للقميص فقد جاءوا بالدم على القميص .
ووصف الدم بالكذب وصف بالمصدر ، والمصدر هنا بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق ، أي مكذوب كونه دم يوسف عليه السّلام إذ هو دم جدي ، فهو دم حقاً لكنه ليس الدم المزعوم . ولا شك في أنهم لم يتركوا كيفية من كيفيات تمويه الدم وحالة القميص بحال قميص من يأكله الذئب من آثار تخريق وتمزيق مما لا تخلو عنه حالة افتراس الذئب ، وأنهم أفطن من أن يفوتهم ذلك وهم عصبة لا يعْزُب عن مجموعهم مثل ذلك . فما قاله بعض أصحاب التفسير من أن يعقوب عليه السّلام قال لأبنائه : ما رأيت كاليوم ذئباً أحلَم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق قميصه ، فذلك من تظرفات القصص .
وقوله : { على قميصه } حال من ( دم ) فقدم على صاحب الحال .
{ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون }
حرف الإضراب إبطال لدعواهم أن الذئب أكله فقد صرح لهم بكذبهم .
والتسويل : التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله .
والإبهام الذي في كلمة { أمراً } يحتمل عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف عليه السّلام : من قتل ، أو بيع ، أو تغريب ، لأنه لم يعلم تعيين ما فعلوه . وتنكير { أمراً } للتهويل .
وفرّع على ذلك إنشاءُ التصبر { فصبرٌ جميل } نائب مناب اصبر صبراً جميلاً . عدل به عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات والدوام ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قالوا سلاماً قال سلامٌ } في سورة هود ( 69 ) . ويكون ذلك اعتراضاً في أثناء خطاب أبنائه ، أو يكون تقدير : اصبر صبراً جميلاً ، على أنه خطاب لنفسه . ويجوز أن يكون فصبر جميل } خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه السياق ، أي فأمْري صبرٌ . أو مبتدأ خبره محذوف كذلك . والمعنى على الإنشاء أوقع ، وتقدم الصبر عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } في سورة البقرة ( 45 ) .
ووصف { جميل } يحتمل أن يكون وصفاً كاشفاً إذ الصبر كله حسن دون الجزع . كما قال إبراهيم بن كنيف النبهاني :
تصبّر فإنّ الصبر بالحرّ أجمل *** وليس على ريب الزمان معوّل
ويحتمل أن يكون وصفاً مخصصاً . وقد فسّر الصبر الجميل بالذي لا يخالطه جزع .
والجمال : حسن الشيء في صفات محاسن صنفه ، فجمال الصبر أحسن أحواله ، وهو أن لا يقارنه شيء يقلل خصائص ماهيته .
وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه السّلام مر بامرأة تبكي عند قبر فقال لها : « اتقي الله واصبري » فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فلما انصرف مرّ بها رجل ، فقال لها : إنه النبيءُ صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : لم أعرفك يا رسول الله ، فقال : « إنما الصبر عند الصدمة الأولى » أي الصبر الكامل .
وقوله : { والله المستعان على ما تصفون } عطف على جملة { فصبر جميل } فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك ، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف عليه السّلام على الخلاص مما أحاط به .
والتعبير عما أصاب يوسف عليه السّلام ب { ما تصفون } في غاية البلاغة لأنه كان واثقاً بأنهم كاذبون في الصفة وواثقاً بأنهم ألحقوا بيوسف عليه السّلام ضراً فلما لم يتعيّن عنده المصاب أجمل التعبير عنه إجمالاً موجهاً لأنهم يحسبون أن ما يصفونه هو موته بأكل الذئب إياه ويعقوب عليه السّلام يريد أن ما يصفونه هو المصاب الواقع الذي وصفوه وصفاً كاذباً . فهو قريب من قوله تعالى : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ سورة الصافات : 180 ] .
وإنما فوض يعقوب عليه السّلام الأمر إلى الله ولم يسْعَ للكشف عن مصير يوسف عليه السّلام لأنه علم تعذر ذلك عليه لكبر سنه ، ولأنه لا عضد له يستعين به على أبنائه أولئك . وقد صاروا هم الساعين في البعد بيْنه وبين يوسف عليه السّلام ، فأيس من استطاعة الكشف عن يوسف عليه السّلام بدونهم ، ألا ترى أنه لما وجد منهم فرصة قال لهم : { اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه } [ سورة يوسف : 87 ] .