محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

/ [ 18 ] { وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون 18 } .

{ وجاءوا على قميصه بدم كذب } بيان لما تآمروا عليه من المكيدة ، وهو أنهم أخذوا قميصه الموشى ، وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه . و { كذب } مصدر بتقدير مضاف ، أي : ذي كذب . أو وصف به مبالغة ، كرجل عدل . و { على } ظرف ل { جاءوا } مشعر بتضمنه معنى ( افتروا ) .

وقوله : { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } أي من تغيب يوسف ، وتفريغه عني ، والاعتذار الكاذب .

قال الناصر : وقوّاه على اتهامهم ، أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام ، هلاكه بسببه أولا ، وهو أكل الذئب ، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم : { وأخاف أن يأكله الذئب } ، وكثيرا ما تتفق الأعذار الباطلة ، من قلق في المخاطب المعتذر إليه ، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار . انتهى .

وفي ( الإكليل ) : استنبط ، من هذا الحكم بالأمارات ، والنظر إلى التهمة ، حيث قال : { بل سولت . . . } الآية .

لطائف :

قال المهايمي : في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد ، كالمال ، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها ، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب . وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود ، وبمن يراعيه ، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلا من الممكور به وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، بل أظهره فعلا ، لم يعتمد عليه .

/ وكذا من أظهر الأمانة قولا وفعلا ، بفعل الخيانة . وأن الإذلال والإعزاز بيد الله ، لا الخلق . وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه . وأن الخوف من الخلق يورث البلاء ، وأن الإنسان ، وإن كان نبيا ، يخلق أولا على طبع البشرية . وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل . وأن القدر كائن . وأن الحذر لا يغني من القدر .

قيل للهدهد : كيف ترى الماء تحت الأرض ، ولا ترى الشبكة فوقها ؟ قال : إذا جاء القضاء عمي البصر .

و ( التسويل ) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه ، وتصوير القبيح بصورة الحسن . { فصبر جميل } ( صبر ) خبر أو مبتدأ ، لكونه موصوفا ، أي فشأني صبر جميل . أو فصبر جميل أجمل والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت ، والجميل منه هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق ولا جزع ، رضا بقضاء الله ، ووقوفا مع مقتضى العبودية .

{ والله المستعان على ما تصفون } أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف - كذا قدروه وحقق أبو السعود ، أن المعنى على إظهار حال ما تصفون ، وبيان كونه كذبا ، وإظهار سلامته ، فإنه علم في الكذب . قال سبحانه{[4916]} : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى{[4917]} : { فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف ، والصبر على الرزء فيه - يأباه تكذيبه عليه السلام لهم في ذلك ، ولا تساعده الصيغة ، فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه ، كما أشير إليه . انتهى .

وفي قوله : { والله المستعان } اعتراف بأن تلبسه بالصبر لا يكون إلا بمعونته تعالى .

قال الرازي : لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع ، وهي قوية . والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا . فكأنهما في تحارب وتجالد . فما لم تحصل إعانته تعالى ، / لم تحصل الغلبة . فقوله : { فصبر جميل } يجري مجرى قوله : { إياك نعبد } . وقوله : { والله المستعان } يجري مجرى قوله : { وإياك نستعين } . انتهى .


[4916]:[37/ الصافات / 180].
[4917]:[12 / يوسف / 18 و 83].