المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

وقوله تعالى : { وجاءوا على قميصه بدم كذب } الآية ، روي أنهم أخذوا سخلة{[6599]} أو جدياً فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف ، وقالوا ليعقوب : هذا قميصه ، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا أثر ناب .

فاستدل بذلك على كذبهم ، وقال لهم : متى كان الذئب حليماً ، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ - قص هذا القصص ابن عباس وغيره ، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص - واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها - في قول مالك - إلى غير ذلك .

قال الشافعي : كان في القميص ثلاث آيات : دلالته على كذبهم وشهادته في قده ، ورد بصر يعقوب به{[6600]} . وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئباً فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب ، هذا أكل يوسف ، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم .

ووصف الدم ب { كذب } إما على معنى بدم ذي كذب ، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه ، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر :

[ الكامل ]

حتى إذا لم يتركوا لعظامه*** لحماً ولا لفؤادِهِ معقولا{[6601]}

فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب .

قال القاضي أبو محمد : هذا كلام الطبري ، ولا شاهد له فيه عندي ، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل ، ولا يحتاج إلى بدل ، وإنما «الدم الكذب » عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة .

وقرأ الحسن : «بدم كذب » بدال غير معجمة ، ومعناه الطري ونحوه ، وليست هذه القراءة قوية{[6602]} .

ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم : { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } أي رضيت وجعلت سولاً ومراداً54 { أمراً } أي صنعاً قبيحاً بيوسف . وقوله : { فصبر جميل } رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر : إما على تقدير : فشأني صبر جميل ، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل . وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب : «فصبراً جميلاً » على إضمار فعل ، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك - وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [ الرجز ]

. . . . . . . . صبرا جميلاً فكلانا مبتلى*** وينشد أيضاً بالرفع ويروى «صبر جميل » ، على نداء الجمل المذكور في قوله : [ الرجز ]

شكى إليّ جملي طول السرى*** يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى*** وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه .

وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من بث لم يصبر صبراً جميلاً »{[6603]} .

وقوله : { والله المستعان على ما تصفون } تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه ، والتقدير على احتمال ما تصفون .


[6599]:السخلة: الذكر والأنثى من ولد الضأن والمعز ساعة يولد، والجمع: سخل، وسخال، وسخلان. (المعجم الوسيط).
[6600]:قال القرطبي: "هذا مردود، فإن القميص الذي جاءوا عليه بالدم غير القميص الذي قُدّ، وغير القميص الذي أتاه البشير به، وقد قيل: إن القميص الذي قد هو القميص الذي أتي به فارتد بصيرا". هذا وقد اختلف العلماء في إعراب {على قميصه}، فقال الزمخشري: محله النصب على الظرف كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم، كما تقول: "جاء على جماله بأحمال"، ورد أبو حيان ذلك بقوله: ولا يساعد المعنى على نصب [على] على الظرف بمعنى فوق، لأن العامل فيه إذ ذاك [جاءوا] وليس الفوق ظرفا لهم، بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم، وقال الحوفي: [على] متعلق ب[جاءوا]، ورده أبو حيان أيضا، وقال أبو البقاء: {على قميصه} في موضع نصب حالا من [دم]، لأن التقرير: جاءوا بدم كذب على قميصه، وعلق على ذلك أبو حيان بقوله: والمعنى يرشد إليه وإن كان هناك خلاف في جواز تقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد، ومن أجاز ذلك استدل عليه بشواهد كثيرة من لسان العرب.
[6601]:البيت للراعي النميري، قاله من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان ويشكو من جباة الزكاة، وقد وردت في (جمهرة أشعار العرب) لابن أبي الخطاب القرشي، ومعنى البيت مع البيت الذي قبله: إن جباة الزكاة ضربوا رئيس القوم بالسياط الأصبحية حتى لم يتركوا على عظامه لحما، ولا أبقوا في فوائده عقلا. كذلك أورد الفراء البيت في (معاني القرآن) في أثناء شرحه للآية الكريمة، قال: "وقوله: {وجاءوا على قميصه بدم كذب} معناه: مكذوب، والعرب تقول للكذب: مكذوب، وليس له عقد رأي، ومعقود رأي، فيجعلون المصدر في كثير من الكلام مفعولا، قال الشاعر: إن أخا المجلود من صبرا، وقال آخر: حتى إذا لم يتركوا... البيت".
[6602]:قال أبو الفتح بن جني في "المحتسب 1- 335": "أصل هذا من الكذب وهو الفوف، يعني البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث، فكأنه دم قد أثر على قميصه فلحقته أعراض كالنقش عليه".
[6603]:الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}.