قوله تعالى : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتةً } أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن سورة محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي ، حدثنا الحسين ، أنبأنا الحسن ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا معمر بن راشد ، عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنىً مطفياً ، أو فقراً منسياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مقيداً ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر " قوله عز وجل : { فقد جاء أشراطها } أي أماراتها وعلاماتها ، وأحدها : شرط ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة .
أخبرني عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضل بن سليمان ، حدثنا أبو حازم ، أنبأنا سهل بن سعد قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بأصبعيه هكذا ، بالوسطى والتي تلي الإبهام : " بعثت أنا والساعة كهاتين " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الحوضي ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس قال : لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثنكم به أحد غيري ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر ، ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سنان ، أنبأنا فليح ، حدثنا هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال : متى الساعة ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ، فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال : وقال بعضهم : بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه ، قال : أين السائل عن الساعة ؟ قال : ها أنا يا رسول الله ، قال : فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال : كيف إضاعتها ؟ قال :إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " . قوله عز وجل : { فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } فمن أين لهم التذكير والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة ؟ نظيره : { يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى }( الفجر-23 ) .
ومن ثم يعود بعد هذه اللفتة إلى الحديث عن أولئك المنافقين المطموسين الغافلين ، الذين يخرجون من مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم يعوا مما قال شيئا ينفعهم ويهديهم . ويستجيش قلوبهم للتقوى ، ويذكرهم بما ينتظر الناس من حساب وجزاء :
( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? فقد جاء أشراطها . فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم ? ) .
وهي جذبة قوية تخرج الغافلين من الغفلة بعنف ، كما لو أخذت بتلابيب مخمور وهززته هزا !
ماذا ينتظر هؤلاء الغافلون الذين يدخلون مجالس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويخرجون منها ، غير واعين ، ولا حافظين ، ولا متذكرين ? ماذا ينتظرون ? ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? ) . . فتفجأهم وهم سادرون غارون غافلون .
هل ينظرون إلا الساعة ? ( فقد جاء أشراطها ) . ووجدت علاماتها . والرسالة الأخيرة أضخم هذه العلامات ، فهي إيذان بأنها النذارة الأخيرة قرب الأجل المضروب . وقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها . وإذا كان الزمن يلوح ممتدا منذ هذه الرسالة الأخيرة ؛ فإن أيام الله غير أيامنا . ولكنها في حساب الله قد جاءت الأشراط الأولى ؛ وما عاد لعاقل أن يغفل حتى تأخذه الساعة بغتة حيث لا يملك صحوا ولا ذكرا :
( فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم ? ) . .
إنها الهزة القوية العنيفة التي تخرج الغافلين من غفلتهم ؛ والتي تتفق كذلك مع طابع السورة العنيف .
وقوله تعالى : { فهل ينظرون } يريد المنافقين ، والمعنى : { فهل ينظرون } أي هكذا هو الأمر في نفسه وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك ، فإن ما في أنفسهم غير مراعى ، لأنه باطل .
وقرأ جمهور الناس : «أن تأتيهم » ف { أن } بدل من { الساعة } . وقوله تعالى على هذه القراءة . { فقد جاء أشراطها } إخبار مستأنف والفاء عاطفة جملة من الكلام على جملة . وقرأ أهل مكة فيما روى الرؤاسي «إن تأتهم » بكسر الألف وجزم الفعل على الشرط ، والفاء في قوله : { فقد جاء أشراطها } جواب الشرط{[10363]} وليست بعاطفة على القراءة الأولى فثم نحو من معنى الشرط ، و . { بغتة } معناه : فجأة ، وروي عن أبي عمرو «بغَتّة » بفتح الغين وشد التاء . وقوله : { فقد جاء أشراطها } على القراءتين معناه : فينبغي أن يقع الاستعداد والخوف منها لمن جزم ونظر لنفسه . والذي جاء من أشراط الساعة محمد عليه السلام لأنه آخر الأنبياء ، فقد بان من أمر الساعة قدر ما ، وفي الحديث عنه عليه السلام أنه قال : «أنا من أشراط الساعة{[10364]} وقد بعثت أنا والساعة كهاتين{[10365]} وكفرسي رهان » . ويقال شرط وشرط : بسكون الراء وتخفيفها ، وأشرط الرجل نفسه : ألزمها أموراً . وقال أوس بن حجر : [ الطويل ]
فأشرط فيها نفسه وهو معصم . . . وألقى بأسباب له وتوكلا{[10366]}
وقوله تعالى : { فأنى لهم } الآية ، يحتمل أن يكون المعنى : { فأنى لهم } الخلاص أو النجاة { إذ جاءتهم } الذكرى بما كانوا يخبرون به في الدنيا فيكذبون به وجاءهم العذاب مع ذلك . ويحتمل أن يكون المعنى : فأنى لهم ذكراهم وعملهم بحسبها إذا جاءتهم الساعة ، وهذا تأويل قتادة ، نظيره : { وأنى لهم التناوش من مكان بعيد }{[10367]} [ سبإ : 52 ] .
{ فهل ينظرون إلآ الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشارطها }
تفريع على ما مضى من وصف أحوال الكافرين من قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } إلى قوله : { واتبعوا أهواءهم } [ محمد : 10 16 ] الشاملة لأحوال الفريقين ففرع عليها أن كلا الفريقين ينتظرون حلول الساعة لينالوا جزاءهم على سوء كفرهم فضمير ينظرون مراد به الكافرون لأن الكلام تهديد ووعيد ، ولأن المؤمنين ينتظرون أموراً أخر مثل النصر والشهادة ، قال تعالى : { قل هل تَربَّصُون بنا إلا إحدى الحُسْنَيْينِ } [ التوبة : 52 ] الآية . والنظر هنا بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } [ الأنعام : 158 ] الآية .
والاستفهام إنكار مشوب بتهكم ، وهو إنكار وتهكم على غائبين ، موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا تحسب تأخير مؤاخذتهم إفلاتاً من العقاب ، فإنه مُرجَوْن إلى الساعة .
وهذا الاستفهام الإنكاري ناظر إلى قوله آنفاً { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [ محمد : 12 ] .
والقصر الذي أفاده الاستثناء قصر ادعائي ، نُزل انتظارهم ما يأملونه من المرغوبات في الدنيا منزلة العدم لضآلة أمره بعد أن نُزلوا منزلة من ينتظرون فيما ينتظرون الساعة لأنهم لتحقق حلوله عليهم جديرون بأن يكونوا من منتظريها .
و { أن تأتيهم } بدل اشتمال من الساعة . و { بغتة } حال من الساعة قال تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ الأعراف : 187 ] . والبغتة : الفجأة ، وهو مصدر بمعنى : المرة ، والمراد به هنا الوصف ، أي مباغتة لهم .
ومعنى الكلام : أن الساعة موعدهم وأن الساعة قريبة منهم ، فحالهم كحال من ينتظر شيئاً فإنما يكون الانتظار إذا اقترب موعد الشيء ، هذه الاستعارة تهكمية .
والفاء من قوله : { فقد جاء أشراطها } فاء الفصيحة كالتي في قول عباس بن الأحنف :
قالوا خراسانُ أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وهذه الفصيحة تفيد معنى تعليل قرب مؤاخذتهم .
والأشراط : جمع شَرَط بفتحتين ، وهو : العلامة والأمارة على وجود شيء أو على وصفه . وعلامات الساعة هي علامات كونها قريبة . وهذا القرب يتصور بصورتين :
إحداهما أن وقت الساعة قريب قرباً نسبياً بالنسبة إلى طول مدة هذا العالم ومن عليه من الخلق .
والثانية : أن ابتداء مشاهدة أحوال الساعة يحصل لكل أحد بموته فإن روحه إذا خلصت عن جسده شاهدت مصيرها مشاهدة إجمالية وبه فسر حديث أبي هريرة مرفوعاً « القبر روضة من رياض الجنة أو حفر من حفر النار » رواه الترمذي . وهو ضعيف ويفسره حديث ابن عمر مرفوعاً « إذا مات الميت عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ثم يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة » ونهاية حياة المرء قريبة وإن طال العمر .
والأشراط بالنسبة للصورة الأولى : الحوادث التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقع بين يدي الساعة ، وأولها بعثته لأنه آخر الرسل وشريعته آخر الشرائع ثم ما يكون بعد ذلك ، وبالنسبة للصورة الثانية أشراطها الأمراض والشيخوخة .
{ فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذكراهم } .
تفريع على { فقد جاء أشراطها } . و { أنّى } اسم يدل على الحالة ، ويضمّن معنى الاستفهام كثيراً وهو هنا استفهام إنكاري ، أي كيف يحصل لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة ، والمقصود : إنكار الانتفاع بالذكرى حينئذٍ .
و { أنَّى } مبتدأ ثان مقدم لأن الاستفهام له الصدارة . و { ذكراهم } مبتدأ أول و { لهم } خبر عن { أنّى } ، وهذا التركيب مثل قوله تعالى : { أنّى لهم الذكرى } في سورة الدخان ( 13 ) ، وضمير جاءتهم } عائد إلى { الساعة } .