{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } أي القيامة ، وقوله تعالى : { أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي تباغتهم بغتة وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة أي لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ولا بالإخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأحوال فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها ، وقوله تعالى : { فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } أي علاماتها وأماراتها كما في قوله أبي الأسود الدؤلي :
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا *** فقد جعلت أشراط أوله تبدو
وهي جمع شرط بالتحريك تعليل لمفاجأتها على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأساً ولم يعدوها من مبادىء إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة كذا في إرشاد العقل السليم ، وظاهر كلام الكشاف أنه تعليل للإتيان مطلقاً أي ما ينتظرون إلا إتيان الساعة لأنه قد جاء أشراطها وبعد مجيئها لا بد من وقوع الساعة ، وتعليل المقيد دون قيده لا يخلو عن بعد ، قيل : ويقربه هنا أن انتظارهم ليس إلا لإتيان الساعة وتقييده ببغتة ليس إلا لبيان الواقع ، وقال بعض المحققين : هو تعليل لانتظار الساعة لأن ظهور إمارات الشيء سبب لانتظاره ، وفي جعله تعليلاً للمفاجأة خفاء لأنها لا تناسب مجيء الأشراط إلا بتأويل ، وأنت تعلم أن البدل هو المقصود فالانتظار لإتيان الساعة بغتة فالتعليل المذكور تعليل للمقيد دون قيده أيضاً فكان ما في الإرشاد متعين وإن كان فيه نوع تأويل ، وقوله تعالى : { فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ } على ما أفاده بعض الأجلة تعجيب من نفع الذكرى عند مجيء الساعة وإنكار لعدم تشمرهم لها ولانتظارهم إياها هزؤاً وجحوداً ، وفي «الإرشاد » وقوله تعالى : { أَشْرَاطُهَا فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذٍ كقوله سبحانه : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] أي فكيف لهم ذكراهم على أن { إِنّى } خبر مقدم و { ذِكْرَاهُمْ } مبتدأ و { إِذَا جَاءتْهُمُ } اعتراض وسط بينهما رمزاً إلى غاية سرعة مجيئها ، وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئها مطلقاً لا مقيداً بقيد البغتة ، وقيل : { إِنّى } خبر مقدم لمبتدأ محذوف أي فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما يخبرون به فينكرونه منوطة بالعذاب ولا يخفى حاله ، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة { أن تَأْتِهِم } على أنه شرط مستأنف جزاؤه { فأنى لَهُمْ } الخ أي أن تأتهم الساعة بغتة إذ قد جاء أشراطها فأنى تنفعهم الذكرى وقت مجيئها ، { وَأَنْ } هنا بمعنى إذا لأن إتيان الساعة متيقن ، ولعل الإتيان بها للتعريض بهم وأنهم في ريب منها أو لأنها لعدم تعيين زمانها أشبهت المشكوك فيه وإذا جاءتهم باعتبار الواقع فلا تعارض بينهما كما يتوهم في النظرة الحمقاء .
وفي «الكشف » { إِذَا } على هذه القراءة لمجرد الظرفية لئلا يلزم التمانع بين { إِذَا جَاءتْهُمُ } و { أن تَأْتِهِم } وفي الإتيان بأن مع الجزم بالوقوع تقوية أمر التوبيخ والإنكار كما لا يخفى انتهى ، وعلى ما ذكرنا لا يحتاج إلى جعل إذاً لمجرد الظرفية .
وقرأ الجعفي . وهارون عن أبي عمرو { بَغْتَةً } بفتح الغين وشد التاء ، قال صاحب اللوامح : وهي صفة وانتصابها على الحال ولا نظير لها في المصادر ولا في الصفات بل في الأسماء نحو الجربة وهي القطيع من حمر الوحش ، وقد يسمى الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين جربة ، والشربة وهي اسم موضع وكذا قال أبو العباس بن الحاج من أصحاب أبي علي الشلوبين في كتابه المصادر ، وقال الزمخشري : وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو وأن يكون الصواب بغتة بفتح الغين من غير تشديد كقراءة الحسن فيما تقدم .
وتعقبه أبو حيان بأن هذا على عادته في تغليط الرواة ، والظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا علاماتها التي كانت واقعة إذ ذاك وأخبروا أنها علامات لها كبعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج أحمد . والبخاري . ومسلم . والترمذي عن أنس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى " وأراد عليه الصلاة والسلام مزيد القرب بين مبعثه والساعة فإن السبابة تقرب من الوسطى طولاً فينا وهكذا فيه صلى الله عليه وسلم . وزعم بعضهم أن أمر الطول والقصر في وسطاه وسبابته عليه الصلاة والسلام على عكس ما فينا خطأ لا يلتفت إليه إلا أن يكون أراد ذلك في أصابع رجليه الشريفة صلى الله عليه وسلم .
وأخرج أحمد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعثت أنا والساعة جميعاً وإن كادت لتسبقني " وهذا أبلغ في إفادة القرب وعدوا منها انشقاق القمر الذي وقع له صلى الله عليه وسلم والدخان الذي وقع لأهل مكة وأما أشراطها مطلقاً فكثيرة ألفت فيها كتب مختصرة ومطولة وهي تنقسم إلى مضيقة لا تبقى الدنيا بعد وقوعها إلا أيسر يسير كخروج المهدي رضي الله تعالى عنه على ما يقول أهل السنة دون ما يقوله الشيعة القائلون بالرجعة فإن الدنيا عندهم بعد ظهوره تبقى مدة معتداً بها وكنزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك ، وغير مضيقة وهي أكثر الأشراط ككون الحفاة الرعاة رؤوس الناس وتطاولهم في البنيان وفشو الغيبة وأكل الربا وشرب الخمر وتعظيم رب المال وقلة الكرام وكثرة اللئام وتباهي الناس في المساجد واتخاذها طرقاً وسوء الجوار وقطيعة الأرحام وقلة العلم وأن يوسد الأمر إلى غير أهله وأن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع إلى ما يطول ذكره .
ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن واطلع على أحوال الأزمان رأى أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعيان وامتلأت منها البلدان ، ومع هذا كله أمر الساعة مجهول ورداء الخفاء عليه مسدول . وقصارى ما ينبغي أن يقال : أن ما بقي من عمر الدنيا أقل قليل بالنسبة إلى ما مضى ، وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام خطب أصحابه بعد العصر حين كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا أسف أي شيء فقال : " والذي نفس محمد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه وما بقي منه إلا اليسير " ولا ينبغي أن يقال : إن الألف الثانية بعد الهجرة وهي الألف التي نحن فيها هي ألف مخضرمة أي نصفها من الدنيا ونصفها الآخر من الآخرة ، وقال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف : الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها ألف سنة وبنى الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في آخر الألف السادسة وأن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل عيسى عليه السلام فيقتله ثم يمكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة وأن بين النفختين أربعين سنة ، وذكر الأحاديث والأخبار في ذلك .
وفي بهجة الناظرين وآيات المستدلين قد احتج كثير من العلماء على تعيين قرب زمانها بأحاديث لا تخلو عن نظر فمنهم من قال : بقي منها كذا ، ومنهم من قال : يخرج الدجال على رأس كذا وتطلع الشمس على رأس كذا ، وأفرد الحافظ السيوطي رسالة لذلك كله وقال : تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة ، وكل ذلك مردود وليس للمتكلمين في ذلك إلا ظن وحسبان لا يقوم عليه من الوحي برهان انتهى ، ونقله السفاريني في «البحور الزاخرة » في علوم الآخرة ، وذكر السيوطي عدة أخبار في كون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، أولها ما أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول » بسنده عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم » وساق بقية الحديث ، وفيه «وأطولهم مكثاً فيه من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة » الحديث وتعقبه السفاريني بقوله : ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه صفة النار أن هذا الحديث خرجه ابن أبي حاتم . وغيره ، وخرجه الاسماعيلي مطولاً ، وقال الدارقطني في كتاب المختلف : هو حديث منكر وذكر علله ، ومما ذكره السيوطي في ذلك ما نقل هو ضعف إسناد رفعه ، وقد يرد عليه بأنه قد مضى من زمن البعثة إلى يومنا هذا ألف ومئتان وثماني وستون سنة وإذا ضم إليها ما ذكره من سني مكث عيسى عليه السلام وبقاء الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها وما بين النفختين وهي مائتا سنة تصير ألفاً وأربعمائة وثماني وسبعين فيبقى من المدة التي ذكرها اثنتان وعشرون سنة وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوعها من مغربها بعدة سنين ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي ، ولا يكاد يقال : إنه يظهر بعد خمس عشرة سنة ويظهر الدجال بعدها بسبع سنين على رأس المائة الثالثة من الألف الثانية لأن قبل ذلك مقدمات تكون في سنين كثيرة ، فالحق أنه لا يعلم ما بقي من مدة الدنيا إلا الله عز وجل وأنه وإن طال أقصر قصير وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل ، وكذا فيما أرى مبدأ خلقها لا يعلمه إلا الله تعالى وما يذكرونه في المبدأ لو صح فإنما هو في مبدأ خلق الخليفة آدم عليه السلام لا مبدأ خلق السماء والأرض والجبال ونحوها .
وحكى الشيخ محيي الدين قدس سره عن إدريس عليه السلام وقد اجتمع معه اجتماعاً روحانياً وسأله عن العالم أنه قال : نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث . والفلاسفة على المشهور يزعمون أن من العالم ما هو قديم بالشخص وما هو قديم بالنوع مع قولهم بالحدوث الذاتي ولا يدثر عندهم . وذهب الملا صدر الشيرازي أنهم لا يقولون إلا بقدم العقول المجردة دون عالم الأجسام مطلقاً بل هم قائلون بحدوثها ودثورها وأطال الكلام على ذلك في الأسفار وأتى بنصوص أجلتهم كأرسطو وغيره .
وحكى البعض عنهم أنه خلق هذا العالم الذي نحن فيه وهو عالم الكون والفساد والطالع السنبلة ويدثر عند مضي ثمانية وسبعين ألف سنة وذلك عند مضي مدة سلطان كل من البروج الاثني عشر ووصول الأمر إلى برج الميزان وزعموا أن مدة سلطان الحمل اثنا عشر ألف سنة ومدة سلطان الثور أقل بألف وهكذا إلى الحوت .
ونقل البكري عن هرمس أنه زعم أنه لم يكن في سلطان الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان سلطان الأسد تكونت دواب الماء وهوام الأرض فلما كان سلطان الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع فلما كان سلطان السنبلة تولد الإنسانان الأولان ادمانوس وحوانوس ، وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة وقطعها لكل درجة على قول كثير منهم في مائة سنة فتكون مدته ستاً وثلاثين ألف سنة وكل ذلك خبط لا دليل عليه . ومن أعجب ما رأيت ما زعمه بعض الإسلاميين من أن الساعة تقوم بعد ألف وأربعمائة وسبع سنين أخذاً من قوله تعالى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } وقوله سبحانه : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } [ الأعراف : 187 ] بناءً على أن عدة حروف { بَغْتَةً } بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وسبع ويوشك أن يقول قائل : هي ألف وثمانمائة واثنان وبحسب تاء التأنيث أربعمائة لا خمسة فإنه رأى بعض أهل الحساب كما في فتاوى خير الدين الرملي ويجيء آخر ويقول : هي أكثر من ذلك أيضاً ويعتبر بسط الحروف على نحو ما قالوا في اسم محمد صلى الله عليه وسلم إنه متضمن عدة المرسلين عليه السلام ، وأنت تعلم أن مثل ذلك مما لا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو يلتفت إليه ، والحزم الجزم بأنه لا يعلم ذلك إلا اللطيف الخبير .