قوله تعالى : { بلى من أسلم وجهه } . ي ليس كما قالوا ، بل الحكم للإسلام وإنما يدخل الجنة من أسلم وجهه .
قوله تعالى : { لله } أي أخلص دينه لله وقيل : أخلص عبادته لله وقيل : خضع وتواضع لله ، وأصل الإسلام : الاستسلام والخضوع ، وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه .
قوله تعالى : { وهو محسن } . في عمله ، وقيل : مؤمن وقيل : مخلص .
قوله تعالى : { فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
وهنا يقرر قاعدة من قواعد التصور الإسلامي في ترتيب الجزاء على العمل بلا محاباة لأمة ولا لطائفة ولا لفرد . إنما هو الإسلام والإحسان ، لا الاسم والعنوان :
( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فله أجره عند ربه ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
ومن قبل قرر هذه القاعدة في العقاب ردا على قولهم : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) . . فقال : ( بلى ! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . .
إنها قاعدة واحدة بطرفيها في العقوبة والمثوبة . طرفيها المتقابلين : ( من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) . . فهو حبيس هذه الخطيئة المحيطة ، في معزل عن كل شيء وعن كل شعور وعن كل وجهة إلا وجهة الخطيئة .
و ( من أسلم وجهه لله وهو محسن ) . . فأخلص ذاته كلها لله ، ووجه مشاعره كلها إليه ، وخلص لله في مقابل خلوص الآخر للخطيئة . . ( من أسلم وجهه لله ) . . هنا تبرز سمة الإسلام الأولى : إسلام الوجه - والوجه رمز على الكل - ولفظ أسلم يعني الاستسلام والتسليم . الاستسلام المعنوي والتسليم العملي . ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام : ( وهو محسن ) . . فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك ، بين العقيدة والعمل ، بين الإيمان القلبي والإحسان العملي . . بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها ؛ وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها ؛ وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله :
فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون . .
الأجر المضمون لا يضيع عند ربهم . . والأمن الموفور لا يساوره خوف ، والسرور الفائض لا يمسه حزن . . وتلك هي القاعدة العامة التي يستوي عندها الناس جميعا . فلا محسوبية عند الله سبحانه ولا محاباة !
ثم قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } الآية [ آل عمران : 20 ] .
وقال أبو العالية والربيع : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } يقول : من أخلص لله .
وقال سعيد بن جبير : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } أخلص ، { وَجْهَهُ } قال : دينه ، { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : متبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم . فإن للعمل{[2532]} المتقبل شرطين ، أحدهما : أن يكون خالصًا لله وحده والآخر : أن يكون صوابًا موافقا للشريعة . فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " . رواه مسلم من حديث عائشة ، عنه ، عليه السلام .
فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم ، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول [ محمد ]{[2533]} صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم ، قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39 ] .
وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي .
وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 142 ] ، وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [ الماعون : 4 - 7 ] ، ولهذا قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] . وقال في هذه الآية الكريمة : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ }
وقوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور ، وآمنهم مما يخافونه من المحذور ف { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه ، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى مما يتركونه ، كما قال سعيد بن جبير : ف { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني : في الآخرة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }
[ يعني : لا يحزنون ]{[2534]} للموت .
{ بلى } إبطال لدعواهما . و ( بلي ) كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى } [ القيامة : 3 ، 4 ] ، وقول أبي حية النميري :
يخبرك الواشون أن لن أحبكم *** بلى وستور الله ذات المحارم
وقوله : { من أسلم } جملة مستأنفة عن ( بلى ) لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله : { فله أجره } هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن ( من ) شرطية لا محالة . ومن قدر هنا فعلاً بعد { بلى } أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا .
وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى : { فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني } [ آل عمران : 20 ] . والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفرى :
*إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري{[157]} *
ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] . وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى :
وأول الحكم على وجهه *** ليس قضاء بالهوى الجائر
ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون { أسلم } بمعنى أخلص مشتقاً من السلامة أي جعله سالماً ومنه { ورجلاً سلماً لرجل } [ الزمر : 29 ] .
وقوله : { وهو محسن } جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير .
وجمع الضمير في قوله : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } اعتباراً بعموم ( من ) كما أفرد الضمير في قوله : { وجهه لله وهو محسن } اعتباراً بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار .