7- وقلنا لهم : إن أحسنتم فأطعتم الله كان إحسانكم لأنفسكم في الدنيا والآخرة ، وإن أسأتم بالعصيان فإلى أنفسكم تسيئون . فإذا جاء وقت عقاب المرة الآخرة من مَرَّتي إفسادكم في الأرض ، بعثنا عليكم أعداءكم ، ليجعلوا آثار المساءة والذلة والكآبة بادية على وجوهكم ، وتكون العاقبة أن يدخلوا مسجد بيت المقدس ، فيخربوه كما دخلوه وخربوه أول مرة ، وليهلكوا ما غلبوا عليه إهلاكاً شديداً .
قوله تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } أي : لها ثوابها ، { وإن أسأتم فلها } ، أي : فعليها ، كقوله تعالى : { فسلام لك } [ الواقعة – 91 ] أي : عليك . وقيل : فلها الجزاء والعقاب . { فإذا جاء وعد الآخرة } أي : المرة الآخرة من إفسادكم ، وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط الله عليهم الفرس والروم ، خردوش وطيطوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم ، فذلك قوله تعالى : { ليسوءوا وجوهكم } ، أي : تحزن وجوهكم ، وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن قرأ الكسائي و يعقوب بسوء بالنون وفتح الهمزة على التعظيم ، كقوله : { وقضينا } و{ بعثنا } وقرأ ابن عامر و حمزة بالياء وفتح الهمزة على التوحيد أي : ليسوء الله وجوهكم ، وقيل : ليسوء الوعد وجوهكم . وقرأ الباقون بالياء وضم الهمزة على الجمع ، أي ليسوء العباد أولو البأس الشديد وجوهكم . { وليدخلوا المسجد } يعني : بيت المقدس ونواحيه ، { كما دخلوه أول مرة وليتبروا } ، وليهلكوا ، { ما علوا } أي : ما غلبوا عليه من بلادكم { تتبيراً } .
وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء :
( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) . .
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ؛ والتي تجعل عمل الإنسان كله له ، بكل ثماره ونتائجه . وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل ، منه تنتج ، وبه تتكيف ؛ وتجعل الإنسان مسؤولا عن نفسه ، إن شاء أحسن إليها ، وإن شاء أساء ، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .
فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة :
( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا ) . .
ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض ، اكتفاء بذكره من قبل : ( لتفسدن في الأرض مرتين ) ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه ، أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال . ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها : ( وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار ( وليتبروا ما علوا تتبيرا ) . وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء ، والذي لا يبقي على شيء .
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد ، فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة ، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض ، ودمر مملكتهم فيها تدميرا .
ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل ، لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا . والعبرة هي المطلوبة هنا . وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود .
ثم قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي : فعليها ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] .
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } أي : المرة الآخرة{[17234]} أي : إذا أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم { لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } أي : يهينوكم ويقهروكم { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ } أي بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : في التي جاسوا فيها خلال الديار { وَلِيُتَبِّرُوا } أي : يدمروا ويخربوا { مَا عَلَوْا } أي : ما ظهروا عليه { تَتْبِيرًا }
{ إن أحسنتم لأنفسكم } لأن ثوابه لها . { وإن أسأتم فلها } فإن وباله عليها ، وإنما ذكرها باللازم ازدواجا . { فإذا جاء وعد الآخرة } وعد عقوبة المرة الآخرة . { ليسُوءوا وجوهكم } أي بعثناهم { وليسوءوا وجوهكم } أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها ، فحذف لدلالة ذكره أولا عليه . وقرأ ابن عامر وحمزة أبو بكر " ليسوء " على التوحيد ، والضمير فيه للوعد أو للعبث أو لله ، ويعضده قراءة الكسائي بالنون . وقرئ " لنسوأن " بالنون والياء والنون المخففة والمثقلة ، و " لنسوأن " بفتح اللام على الأوجه الأربعة على أنه جواب إذا واللام في قوله : { وليدخلوا المسجد } متعلق بمحذوف هو بعثناهم . { كما دخلوه أول مرة وليُتبّروا } ما ليهلكوا . { ما علوا } ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم . { تتبيرا } ذلك بأن سلط الله عليهم الفرس مرة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطائف اسمه جودرز ، وقيل حردوس قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا : دم قربان لم يقبل منا فقال : ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا ، فقالوا : إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم ، ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك ، فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ .
فلما قال الله لهم إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله { إن أحسنتم } والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلماً ولا تسرعاً إليكم ، و { وعد الآخرة } معناه من المرتين المذكورتين ، وقوله { ليسوءوا } اللام لام أمر ، وقيل المعنى بعثناهم { ليسوءوا } فهي لام كي كلها ، والضمير للعباد «أولي البأس الشديد » ، وقرأ الجمهور : «ليسوءوا » بالياء جمع همزة وبين واوين ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر «ليسوءَ » بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد ، وقرأ الكسائي ، وهي مروية عن علي بن أبي طالب «لنسوء » بنون العظمة{[7478]} ، وقرأ أبي بن كعب «لنسوءن » بنون خفيفة ، وهي لام الأمر{[7479]} ، وقرأ علي بن أبي طالب «ليسوءن » ، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل ، وفي مصحف أبي بن كعب «ليُسيء » بياء مضمومة بغير واو ، وفي مصحف أنس «ليسوء وجهكم » على الإفراد ، وخص ذكر «الوجوه » لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر ، و { المسجد } مسجد بيت المقدس ، و «تبر » معناه أفسد بقسم وركوب رأس ، وقوله { ما علوا } أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد{[7480]} ، وقيل { ما } ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، و «تبر » معناه رد الشيء فتاتاً كتبر الذهب والحديد ، ونحوه وهو مفتتة .