94- ويقول لهم الله يوم القيامة : لقد تأكدتم الآن بأنفسكم أنكم بعثتم أحياء من قبوركم كما خلقناكم أول مرة ، وجئتم إلينا منفردين عن المال والولد والأصحاب ، وتركتم وراءكم في الدنيا كل ما أعطيناكم إياه مما كنتم تغترون به ولا نرى معكم اليوم الشفعاء الذين زعمتم أنهم ينصرونكم عند الله ، وأنهم شركاء لله في العبادة ! لقد تقطعت بينكم وبينهم كل الروابط ، وغاب عنكم ما كنتم تزعمون أنهم ينفعونكم !
قوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى } ، هذا خبر من الله أنه يقول للكفار يوم القيامة : { ولقد جئتمونا فرادى } وحداناً ، لا مال معكم ، ولا زوج ، ولا ولد ، ولا خدم ، وفرادى جمع فردان ، مثل سكران وسكارى ، وكسلان وكسالى ، وقرأ الأعرج : فردى ، بغير ألف ، مثل سكرى .
قوله تعالى : { كما خلقناكم أول مرة } ، عراةً حفاةً غرلاً .
قوله تعالى : { وتركتم } خلفتم .
قوله تعالى : { ما خولناكم } ، أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم .
قوله تعالى : { وراء ظهوركم } ، خلف ظهوركم ، في الدنيا .
قوله تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } ، وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده .
قوله تعالى : { لقد تقطع بينكم } ، قرأ أهل المدينة والكسائي ، وحفص ، عن عاصم بنصب النون ، على معنى لقد تقطع وصلكم وذلك مثل قوله : { وتقطعت بهم الأسباب } [ البقرة :166 ] أي : الوصلات ، والبين من الأضداد ، يكون وصلاً ويكون هجراً .
ثم في النهاية ، ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى ، الذي كذبوا عليه ، وها هم أولاء بين يديه ، يواجههم في موقف الكربة والضيق :
( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) !
فما معكم إلا ذواتكم مجردة ؛ ومفردة كذلك . تلقون ربكم أفرادا لا جماعة . كما خلقكم أول مرة أفرادا ، ينزل أحدكم من بطن أمة فردا عريان أجرد غلبان !
ولقد ند عنكم كل شيء ، وتفرق عنكم كل أحد ؛ وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه ؛ ( وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) . .
تركتم كل شيء من مال وزينة ، وأولاد ومتاع ، وجاه وسلطان . . كله هناك متروك وراءكم ، ليس معكم شيء منه ، ولا تقدرون منه على قليل أو كثير !
( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) . .
هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد ، وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم ، وتقولون : إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم [ كالذين كانوا يقولون : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ! ) ] سواء كانوا ناسا من البشر كهانا أو ذوي سلطان ؛ أو كانوا تماثيل من الحجر ، أو أوثانا ، أو جنا أو ملائكة ، أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة ، ويجعلون له شركا في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة .
فأين ؟ أين ذهب الشركاء والشفعاء ؟
تقطع كل شيء . كل ما كان موصولا . كل سبب وكل حبل !
( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) . .
وغاب عنكم كل ما كنتم تدعونه من شتى الدعاوى . ومنها أولئك الشركاء ، وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب !
إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزا عنيفا . وهو يشخص ويتحرك ؛ ويلقي ظلاله على النفس ، ويسكب إيحاءاته في القلب ، ظلاله الرعيبة المكروبة ، وإيحاءاته العنيفة المرهوبة . .
وقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : يقال لهم يوم معادهم هذا ، كما قال { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الكهف : 48 ] ، أي : كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه ، فهذا يوم البعث .
وقوله : { وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ } أي : من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " .
وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله ، عَزَّ وجل ، [ له ]{[10971]} أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب ، جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول : فأين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئا ، وتلا هذه الآية : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في [ الدار ]{[10972]} الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أن تلك تنفعهم{[10973]} في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ{[10974]} معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب ، عَزَّ وجل ، على رءوس الخلائق : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] وقيل{[10975]} لهم { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 92 ، 93 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } أي : في العبادة ، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم .
ثم قال تعالى : { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قُرئ بالرفع ، أي شملكم ، وقُرئ بالنصب ، أي : لقد انقطع ما بينكم{[10976]} من الوُصُلات والأسباب والوسائل { وَضَلَّ عَنْكُمْ } أي : وذهب عنكم { مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } من رجاء الأصنام ، كما قال : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 ، 167 ] ، وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] ، وقال { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } الآية [ القصص : 64 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } إلى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 22 - 24 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدا .
{ ولقد جئتمونا } للحساب والجزاء . { فرادى } منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا ، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم ، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى . وقرئ " فراد " كرخال وفراد كثلاث وفردى كسكرى . { كما خلقناكم أول مرة } بدل من أنه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها ، أو حال من الضمير في { فرادى } أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما ، أو صفة مصدر { جئتمونا } أي مجيئنا كما خلقناكم . { وتركتم ما خولناكم } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة . { وراء ظهوركم } ما قدمت منهم شيئا ولم تحتملوا نقيرا . { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم . { لقد تقطع بينكم } أي تقطع وصلكم وتشدد جمعكم ، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل . وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى : وقع التقطع بينكم ، ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه ، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به . { وظل عنهم } ضاع وبطل . { ما كنتم تزعمون } أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء .