الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

قوله تعالى : { فُرَادَى } : منصوب على الحال من فاعل " جئتمونا " ، وجئتمونا فيه وجهان ، أحدهما : أنه بمعنى المستقبَل أي : تجيئوننا ، وإنما أبرزه في صورة الماضي لتحقُّقه كقوله تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } [ الأعراف : 44 ] والثاني : أنه ماضٍ والمراد به حكاية الحال بين يدي الله تعالى يوم يقال لهم ذلك ، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليوم .

واختلف الناس في " فُرادى " هل هو جمع أم لا ؟ والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده ، فقال الفراء : " فُرادى جمع فَرْد وفريد وفَرِد وفَرْدان " فجوَّز أن يكون جمعاً لهذه الأشياء . وقال ابن قتيبة : " هو جمع فَرْدان ك سَكْران وسُكارى ، وعَجلان وعُجالى " . وقال قوم : هو جمع فريد كرديف ورُدَافى ، وأسير وأُسارى ، قاله الراغب ، وقيل : هو جمع فَرَد بفتح الراء ، وقيل بسكونها ، وعلى هذا فألفُه للتأنيث كألف سُكارى وأُسارى ، فَمِنْ ثَمَّ لم ينصرف ، وقيل : هو اسم جمع ؛ لأنَّ فَرْداً لا يجمع على فُرادى ، وقول من قال : إنه جمع له فإنما يريد في المعنى ، ومعنى فُرادى : فرداً فرداً ، فإذا قلت : جاء القوم فُرادى فمعناه واحداً واحداً ، قال الشاعر :

ترى النَُعَراتِ الزُّرْقَ تحت لَبانِه *** فُرادى ومثنى أَثْقَلَتْهَا صواهِلُهْ

ويقال : فَرِد يَفْرُد فُروداً فهو فارِدٌ وأفردته أنا ، ورجل أفرد وامرأة فرداء كأحمر وحمراء ، والجمع على هذا فُرْد كحُمْر ، ويقال في فرادى : فُراد على زِنَةِ فُعال فينصرف ، وهي لغة تميم ، وبها قرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة : { ولقد جِئْتُمونا فُرَاداً } وقال أبو البقاء " وقرئ في الشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح ، يقال في الرفع فُراد مثل نُوام ورُجال وهو جمع قليل " انتهى ، ويقال أيضاً : " جاء القوم فُرادَ " غير منصرف فهو كأُحاد ورُباع في كونه معدولاً صفة ، وهي قراءة شاذة هنا . وروى خارجة عن نافع وأبي عمرو كليهما أنهما قرآ " فَرْدى " مثل سَكْرى اعتباراً بتأنيث الجماعة كقوله تعالى : { وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُم بِسَكْرَى } [ الحج : 2 ] فهذه أربع قراءات : المشهورة فرادى ، وثلاث في الشاذ : فُراداً كرُجال ، فُرادَ كأُحادَ ، وفَرْدَى كسكرى .

قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } في هذه الكاف أوجه ، أحدها : أنها منصوبةُ المحل على الحال من فاعل " جئتمونا " ، فَمَنْ أجاز تعدد الحال أجاز ذلك من غير تأويل ، ومَنْ منع ذلك جَعَلَ الكافَ بدلاً من " فُرادى " . الثاني : أنها في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي : مجيْئُنا مثل مجيئكم يوم خلقناكم ، وقدّره مكي : " منفردين انفراداًثل حالكم أول مرة " والأول أحسن لأن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة الوصف عليه . الثالث : أن الكاف في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في فرادى أي : مشبهين ابتداء خلقكم ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وفيه نظر ؛ لأنهم لم يُشَبَّهوا بابتداء خلقهم ، وصوابه أن تقدر مضافاً أي : مُشْبِهةً حالُكم حال ابتداء خلقكم .

قوله { أَوَّلَ مَرَّةٍ } منصوب على ظرف الزمان والعامل فيه : خلقناكم ، و " مرة " في الأصل مصدر ل : مرَّ يَمُرُّ مَرَّة ، ثم اتُّسع فيها فصارت زماناً ، قال أبو البقاء : " وهذا يدلُّ على قوة شبه الزمان ، بالفعل " . وقال الشيخ : " وانتصب " أول مرة " على الظرف أي : أول زمان ، ولا يتقدَّر أول خلق ، لأنَّ أولَ خَلْقٍ يَسْتدعي خلقاً ثانياً ، ولا يخلق ثانياً إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ " . يعني أنه لا يجوز أن تكون المَرَّة على بابها من المصدرية ، ويقدر أولَ مرةٍ من الخلق لما ذكر .

قوله : { وَتَرَكْتُمْ } فيها وجهان ، أحدهما : أنها في محل نصب على الحال من فاعل " جِئْتُمونا " ، و " قد " مضمرة على رأيٍ ، أي : وقد تركتم . والثاني : أنها لا محلَّ لها لاستئنافها ، و " ما " مفعولة ب " ترك " ، و " مَنْ " موصولة اسمية ، ويضعفُ جَعْلُها نكرة موصوفة والعائد محذوف أي : ما خوَّلْناكموه ، و " ترك " هنا متعدية لواجد لأنها بمعنى التخلية ، ولو ضُمِّنَتْ معنى صيَّر تَعَدَّت لاثنين ، و " خَوَّل " يتعدى لاثنين لأنه بمعنى أعطى ومَلَّك .

والخَوَل : ما أعطاه الله من النِّعَمِ ، قال أبو النجم :

كُومُ الذُّرَى من خَوَلِ المُخَوَّلِ

فمعنى خَوَّلْته كذا : مَلَّكته الخَوَل فيه ، كقولهم : مَوَّلته أي : مَلَّكته المال ، وقال الراغب : " والتخويل في الأصل : إعطاء الخَوَل ، وقيل : إعطاء ما يصير له خَوَلاً ، وقيل : إعطاء ما يَحتاج أن يتعهده ، من قولهم : فلانٌ خالُ مالٍ وخائل مال ، أي : حسن القيام عليه " .

وقوله : { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } متعلق " بتَرَكْتُم " ويجوز أن يضمَّن " ترك " هنا معنى صَيَّر فيتعدَّى لاثنين أولهما الموصول ، والثاني : هذا الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي : وصيَّرتم الترك الذي خوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم .

قوله : { وَمَا نَرَى } الظاهر أنها المتعدية لواحد فهي بصرية ، فعلى هذا يكون " معكم " متعلقاً بنرى ، ويجوز أن يكون بمعنى علم ، فيتعدَّى لاثنين ، ثانيهما هو الظرف فيتعلَّق بمحذوف أي : ما نراهم كائنين معكم أي : مصاحبيكم ، إلا أن أبا البقاء استضعف هذا الوجهَ وهو كما قال ؛ إذ يصير المعنى : وما يعلم شفعاؤكم معكم ، وليس المعنى عليه قطعاً . وقال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من الشفعاء ، إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا نراهم " وفيما قاله نظر لا يَخْفى : وذلك أن النفي إذا دخل على ذات بقيد ففيه وجهان أحدهما : نفي تلك الذات بقيدها ، والثاني نفي القيد فقط دون نفي الذات ، فإذا قلت : " ما رأيت زيداً ضاحكاً " فيجوز أنك لم تَرَ زيداً البتة ، ويجوز أنك رأيته من غير ضحك فكذا هنا ، إذ التقدير : وما نرى شفعاءكم مصاحبيكم ، يجوز أن لم يروا الشفعاء البتة ويجوز أن يَرَوْهم دون مصاحبيهم لهم ، فمن أين يلزم أنهم يكونون معهم ولا يرونهم من هذا التركيب ؟ وقد تقدَّم تحقيق هذه القاعدة في أوائل البقرة وفي قوله { لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] .

و " أنهم " سادٌّ مَسَدَّ المفعولين ل " زعم " ، و " فيكم " متعلق بنفس شركاء ، والمعنى : الذين زعمتم أنهم شركاء لله فيكم أي : في عبادتكم أو في خلقكم لأنكم أشركتموهمع الله في عبادتكم وخلقكم . وقيل " في " بمعنى " عند " ولا حاجة إليه . وقيل : المعنى أنهم يتحملون عنكم نصيباً من العذاب أي : شركاء في عذابكم إن كنتم تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابكم نائبةٌ شاركوكم فيها .

قوله : " بينكم " قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه : " بينكم " نصباً ، والباقون : " بينُكم " رفعاً . فأمَّا القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه ، أحسنها : أن الفاعل مضمر يعود على الاتصال ، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير لكنه تقدَّم ما يدل عليه وهو لفظة " شركاء " ، فإن الشركة تُشْعر بالاتصال ، والمعنى : لقد تقطع الاتصال بينكم فانتصب " بينكم " على الظرفية . الثاني : أن الفاعل هو " بينكم " وإنما بقي على حاله منصوباً حَمْلاً له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش ، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله { يُفَصَلُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 3 ] فيمن بناه للمفعول ، وكذا قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] قال الواحدي : " كما جرى في كلامهم منصوباً ظرفاً ، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام " ثم قال : في قوله ومنَّا دون ذلك فدون في موضع رفع عنده ، وإن كان منصوب اللفظ ، ألا ترى أنك تقول : منا الصالحون ومنا الطالحون " .

إلا أن الناس لما حَكَوا هذا المذهب لم يتعرَّضوا لبناء هذا الظرف بل صَرَّحوا بأنه معرب منصوب ، وهو مرفوعُ المحل ، قالوا : وإنما بقي على نصبه اعتباراً بأغلب أحواله . وفي كلام الشيخ لَمَّا حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مبنيٌّ فإنه قال : " وخرَّجه الأخفش على أنه فاعل ولكنه مبني حملاً على أكثر أحوال هذا الظرف . وفيه نظر لأن ذلك لا يصلح أن يكون علة للبناء ، وعللُ البناء محصورة ليس هذا منها ، ثم قال الشيخ : " وقد يقال لإِضافته إلى مبني كقوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] وهذا ظاهر في أنه جَعَل حَمْله على أكثرِ أحواله علةً لبنائه كما تقدم .

الثالث : أن الفاعل محذوف ، و " بينكم " صفة له قامت مقامه ، تقديره : لقد تقطَّع وصلٌ بينكم ، قاله أبو البقاء ، ورَدَّه الشيخ بأنَّ الفاعل لا يُحذف ، وهذا غيرُ ردٍّ عليه ، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً ، وأن شيئاً قام مقامه فكأنه لم يُحْذَفْ .

وقال ابن عطية : " ويكون الفعل مسنداً إلى شيء محذوف ، أي : لقد تقطع الاتصال بينكم والارتباط ونحو هذا " ، وهذا وجهٌ واضح ، وعليه فَسَّر الناس . وردَّه الشيخ بما تقدَّم . ويُجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإِضمار لأن كلاً منهما غير موجود لفظاً . الرابع : أنَّ " بينَكم " هو الفاعل ، وإنما بُني لإِضافته إلى غير متمكن كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ففتح " مثل " وهو تابع ل " حق " المرفوع ، ولكنه بُني لإِضافته إلى غير متمكن ، وسيأتي في مكانه . ومثله قولُ الآخر :

تَتَداعى مَنْخِراه بدَمٍ *** مثلَ ما أثمرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ

بفتح " مثل " مع أنها تابعة ل " دمٍ " ، ومثله قول الآخر :

لم يمنعِ الشُّربَ منها غيرَ أَنْ نطقَتْ *** حمامةٌ في غصونٍ ذاتِ أوقال

بفتح " غير " وهي فاعل " يمنع " ، ومثله قول النابغة :

أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لُمْتني *** وتلك التي تَسْتَكُّ منها المسامعُ

مقالةَ أَنْ قد قلتَ سوف أنالُه *** وذلك مِنْ تلقاء مثلِك رائِعُ

فمقالة بدل من " أنك لمتني " وهو فاعل ، والرواية بفتح تاء " مقالة " لإِضافتها إلى أَنْ وما في حيِّزها .

الخامس : أن المسألة من باب الإِعمال ، وذلك أن " تَقَطَّع " و " ضَلَّ " كلاهما يتوجَّهان على " ما كنتمْ تزعُمون " كلٌّ منهما يطلبه فاعلاً ، فيجوز أن تكون المسألة من باب إعمال الثاني ، وأن تكون من إعمال الأول ، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّن ذلك ، إلا أنك قد عرفت مما تقدَّم أن مذهب البصريين اختيار إعمال الثاني ، ومذهب الكوفيين بالعكس ، وقد تقدَّم تقرير ذلك في البقرة ، فعلى اختيار البصريين يكون " ضَلَّ " هو الرفع ل " ما كنتم تزعمون " واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميرَه فاستتر فيه ، وعلى اختيار الكوفيين يكون " تقطَّع " هو الرافع ل " ما كنتم تزعمون " ، وفي " ضلَّ " ضميره فاعلاً به ، وعلى كلا القولين ف " بينكم " منصوبٌ على الظرف وناصبه " تقطَّع " .

السادس : أن الظرف صلة لموصول محذوف تقديره : تقطع ما بينكم ، فحذف الموصول وهو " ما " وقد تقدَّم أن ذلك رأي الكوفيين ، وتقدَّم ما استشهدوا به عليه من القرآن وأبيات العرب ، واستدل القائلُ/ بذلك بقول الشاعر :

يُدِيرونني عن سالمٍ وأُديرُهمْ *** وجِلْدَةُ بين الأنف والعينِ سالمُ

وبقول الآخر :

ما بين عَوْفٍ وإبراهيمَ مِنْ نَسَبٍ *** إلا قرابةُ بين الزنج والرومِ

تقديره : وجلدة ما بين ، وإلا قرابة ما بين ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله ومجاهد والأعمش : { لقد تقطَّع ما بينكم } .

السابع : قال الزمخشري : " لقد تقطع بينكم : لقد وقع التقطع بينكم ، كما تقول : جمع بين الشيئين ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل " انتهى . قوله : " بهذا التأويل " قولٌ حسن : وذلك أنه لو أضمر في " تقطع " ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير : تقطع التقطع بينكم ، وإذا تقطع التقطُّع بينهم حَصَل الوصل ، وهو ضد المقصود فاحتاج أن قال : إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور . إلا أن الشيخ اعترض فقال : " وظاهره أنه ليس بجيد ، وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه ، لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر فهو محذوف ، ولا يجوز حذف الفاعل ، ومع هذا التقدير فليس بصحيح ؛ لأن شرط الإِسناد مفقود فيه وهو تغايُر الحكم والمحكوم عليه " يعني أنه لا يجوز أن يتحد الفعل والفاعل في لفظ واحد من غير فائدة لا تقول : قام القائم ولا قعد القاعد فتقول : إذا أسند الفعل إلى مصدره : فأمَّا إلى مصدره الصريح من غير إضمار فيلزم حذف الفاعل ، وأمَّا إلى ضميره فيبقى تقطَّع التقطع ، وهو مثل : قام القائم ، وذلك لا يجوز مع أنه يلزم عليه أيضاً فساد المعنى كما تقدم من أنه يلزم ما يحصل لهم الوصل " وهذا الذي أورده الشيخُ وقرَّرته مِنْ كلامه حتى فُهِم لا يَرِدُ ؛ لِما تقدم من قول الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التاويل ، وقد تقدم ذلك التأويل .

وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه اتُّسع في هذا الظرفِ ، فأُسند الفعل إليه فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] فاستعمله مجروراً ب " مِنْ " وقوله تعالى { فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ]

{ مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [ الكهف : 61 ] { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } [ المائدة : 106 ] . وحكى سيبويه : " هو أحمر بين العينين " وقال عنترة :

وكأنما أَقِصُ الإِكامَ عشيةً *** بقريب بينِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ

وقال مهلهل :

كأنَّ رماحَنا أشطانُ بئرٍ *** بعيدةِ بين جالَيْها جَرُورِ

فقد اسْتُعْمِلَ في هذه المواضع كلها مضافاً إليه متصرَّفاً فيه فكذا هنا ، ومثله قوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** وجِلْدَةُ بين الأنف والعين سالم

وقوله :

. . . . . . . . . . . . . . *** إلا قرابةُ بين الزنج والروم

وقوله :

ولم يَتْرك النبلُ المُخالِفُ بينها *** أخاً لاح [ قد ] يُرْجى وما ثورةُ الهندِ

يروى برفع " بينها " وفتحه على أنه فاعل ل " مخالف " ، وإنما بني لإِضافته إلى مبنيّ ، ومثلُه في ذلك : أمام ودون كقوله :

فَغَدَتْ كلا الفَرْجَيْنِ تحسب أنَّه *** مَوْلَى المخافةِ خَلْفُها وأمامُها

برفع أمام ، وقوله :

ألم تَرَ أني قد حَمَيْتُ حقيقي *** وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها

برفع " دون " .

الثاني : أن " بين " اسمٌ غير ظرف ، وإنما معناها الوصل أي : لقد تَقَطَّع وصلكم . ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن " بين " مصدر بان يبين بَيْناً بمعنى بَعُد ، فيكون من الأضداد أي إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يُستعمل للوصل والفراق كالجَوْن للأسود والأبيض ، ويُعْزى هذا لأبي عمرو وابن جني والمهدوي والزهراوي ، وقال أبو عبيد :/ " وكان أبو عمرو يقول : معنى تقطَّع بينكم : تقطَّع وصلكم ، فصارت هنا اسماً من غير أن يكون معها " ما " . وقال الزجاج : " والرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطَّع وَصْلُكم " ، فقد أطلقوا هؤلاء أنَّ " بَيْن " بمعنى الوصل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .

إلا أنَّ ابن عطية طعن فيه وزعم أنه لم يُسْمع من العرب " البين " بمعنى الوصل ، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية ، أو أنه أُريد بالبَيْن الافتراقُ ، وذلك مجازٌ عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطَّعت المسافة بينكم لطولها فعبَّر عن ذلك بالبين . قلت : فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فَهِمَ أنها بمعنى الوصل حقيقةً ، ثم رَدَّه بكونِه لم يُسْمع من العرب ، وهذا منه غير مُرْضٍ ، لأنَّ أبا عمروٍ وأبا عبيد وابن جني والزهراوي والمهدوي والزجاج أئمة يُقبل قولُهم . وقوله : " وإنما انتُزِع من هذه الآية " ممنوعٌ بل ذلك مفهوم من لغة العرب ، ولو لم يكن ممَّن نقلها إلا أبو عمرو لكفى به ، وعبارته تؤذن بأنه مجاز ، ووجه المجاز كما قاله الفارسي : أنه لمَّا استعمل " بين " مع الشيئين المتلابسين في نحو : " بيني وبينك شركَةٌ ، وبيني وبينك رحم وصداقة " صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة ، وعلى خلاف الفرقة ، فلهذا جاء لقد تقطَّع وصلكم " . وإذا تقرَّر هذا فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً ، لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز خير منه عند الجمهور .

وقال أبو علي أيضاً : " ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استُعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتُّسِع فيه ، أو يكون الذي هو مصدر ، فلا يجوز أن يكونَ هذا القسمَ لأن التقدير يصير : لقد تقطع افتراقكم ، وهذا خلاف القصد والمعنى ، ألا ترى أن المراد : وصلكم وما كنتم تتألفون عليه . فإن قلت : كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل وأصله الافتراق والتباين ؟ قيل : إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو : " بيني وبينك شركة " ، فذكر ما قدَّمْتُه عنه من وجه المجاز إلى آخره .

وأجاز أبو عبيد والزجاج وجماعة قراءة الرفع . قال أبو عبيد : " وكذلك نقرؤها بالرفع لأنَّا قد وَجَدْنا العرب تجعل " بين " اسماً من غير ما ، ويُصَدِّق ذلك قولُه تعالى : { بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [ الكهف : 61 ] فجعل " بين " اسماً من غير ما ، وكذلك قوله : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] قال : " وقد سمعناه في غير موضع من أشعارها " ثم ذكر ما ذَكَرْتُه عن أبي عمرو بن العلاء ، ثم قال : " وقرأها الكسائي نصباً ، وكان يعتبرها بحرف عبد الله " لقد تقطع ما بينكم " . وقال الزجاج : " والرفعُ أجودُ والنصب جائز ، والمعنى : لقد تقطع ما كان من الشركة بينكم " . الثالث : أن هذا كلام محمول على معناه إذ المعنى : لقد تفرق جمعكم وتشتَّت ، وهذا لا يصلح أن يكون تفسير إعراب .

قوله : { مَّا كُنتُمْ } " ما " يجوز أن تكون موصولةً اسمية أو نكرة موصوفة أو مصدرية ، والعائد على الوجهين الأولين محذوف بخلاف الثالث ، والتقدير : تزعمونهم شركاء أو شفعاء ، فالعائد هو المفعول الأول و " شركاء " هو الثاني ، فالمفعولان محذوفان اختصاراً للدلالة عليهما إن قلنا : إن " ما " موصولةٌ اسمية أو نكرة موصوفة . ويجوز أن يكون الحذف حَذْفَ اقتصار إن قلنا إنها مصدرية ، لأن المصدرية لا تحتاج إلى عائد بخلاف غيرها ، فإنها تفتقر إلى عائد فلا بد من الالتفات إليه وحينئذ يلزم تقدير المفعول الثاني ، ومن الحذف اختصاراً قوله :

بأيِّ كتابٍ أم بأية سنةٍ *** ترى حبَّهم عاراً علي وتحسبُ

أي : وتحسب حبهم عاراً علي .