تضمنت هذه السورة الكريمة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث همته وتقوية عزيمته ليبقى مستمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد ، وتشبيه ما وقع لأهل مكة من العذاب ، بما وقع لأصحاب الجنة الذين جاءت قصتهم فيها ، وتبشير المؤمنين بما لهم عند ربهم ، وعدم التسوية بينهم وبين الكافرين ، والإنكار على المكذبين فيما يدعونه لأنفسهم بغير حق ، وتخويفهم بوصف حالهم في الآخرة ، وتهديدهم ، والنصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتمال ، وقد ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم .
1- ن : حرف من حروف المعجم التي بدئت بعض السور بها تحدياً للمكذبين وتنبيهاً للمصدقين .
{ ن } اختلفوا فيه فقال ابن عباس : هو الحوت . الذي على ظهره الأرض . وهو قول مجاهد ومقاتل ، والسدي ، والكلبي . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض ، فأنبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وما يسطرون } واختلفوا في اسمه ، فقال الكلبي ومقاتل : بهموت . وقال الواقدي : ليوثا . وقال كعب : لويثا . وعن علي : اسمه بلهوث . وقالت الرواة : لما خلق الله الأرض وفتقها ، بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه ، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب ، باسطتين قابضتين على الأرضين السبع ، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار ، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه ، فلم تستقر قدماه فأخذ ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس ، غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر وأزبد ، وإذا رد نفسه جزر ، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه { فتكن في صخرة }( لقمان- 16 ) ولم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله نوناً وهو الحوت العظيم ، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال ، والحوت على البحر ، والبحر على متن الريح ، والريح على القدرة . يقال : فكل الدنيا كلها بما عليها حرفان ، قال لها الجبار : كوني فكانت . قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه ، فقال له : أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال ، لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك ، فهم لويثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه ، فعج الحوت إلى الله منها ، فأذن لها الله فخرجت . قال كعب : فوالذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إلى ذلك كما كانت . وقال بعضهم : نون آخر حروف الرحمن ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون الدواة . وقيل : هو قسم أقسم الله به . وقيل : فاتحة السورة . وقال عطاء : افتتاح اسمه نور ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله بنصرته للمؤمنين . { والقلم } هو الذي كتب الله به الذكر ، وهو قلم من نور ، طوله ما بين السماء والأرض ، ويقال : أول ما خلق الله القلم ، ونظر إليه فانشق نصفين ، ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك . { وما يسطرون } يكتبون أي ما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
يقسم تعالى بالقلم ، وهو اسم جنس شامل للأقلام ، التي تكتب بها [ أنواع ] العلوم ، ويسطر بها المنثور والمنظور .
سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي صحيح البخاري { سورة ن~ والقلم } على حكاية اللفظين الواقعين في أولها ، أي سورة هذا اللفظ .
وترجمها الترمذي في جامعه وبعض المفسرين سورة { ن~ } بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة { ص~ } وسورة { ق~ } .
وفي بعض المصاحف سميت { سورة القلم } وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس .
وهي مكية قال ابن عطية : لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل .
وذكر القرطبي عن الماوردي : أن ابن عباس وقتادة قالا : أولها مكي ، إلى قوله { على الخرطوم } ، ومن قوله { إنا بلوناهم } إلى { لو كانوا يعلمون } مدني ، ومن قوله { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } إلى قوله { فهم يكتبون } مكي ومن قوله { فاصبر لحكم ربك } إلى قوله { من الصالحين } مدني ، ومن قوله { وإن يكاد الذين كفروا } إلى آخر السورة مكي .
وفي الإتقان عن السخاوي : أن المدني منها من قوله { إنا يلوناهم } إلى { لو كانوا يعلمون } ومن قوله { فاصبر لحكم ربك } إلى قوله { من الصالحين } فلم يجعل قوله { إن للمتقين عند ربهم } إلى قوله { فهم يكتبون } مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس .
وهذه السورة عدها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال : نزلت بعد سورة { اقرأ باسم ربك } وبعدها سورة المزمل ثم سورة المدثر ، والأصح حديث عائشة أن أول ما أنزل سورة اقرأ باسم ربك ثم فتر الوحي ثم نزلت « سورة المدثر » .
وما في حديث جابر بن عبد الله أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي يحمل على أنها نزلت بعد سورة { اقرأ ياسم ربك } جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها .
وفي تفسير القرطبي : أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل .
واتفق العادون على عد آيها ثنتين وخمسين .
جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح .
وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله { والقلم وما يسطرون } .
وابتدئت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين .
وإبطال مطاعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم .
وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته .
وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن .
ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم ، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم .
وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام ، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة .
ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم . وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها .
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه ، وأن لا يضجر في ذلك ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام .
افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء .
ورَسمُوا حرف { ن } بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو { نُون } ( بنونٍ بعدها واو ثم نون ) وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته ، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلاً فإنما ترسم سينا ، وياء ، وفَاء ، ولا ترسم صورة سَيْف .
وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة .
ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها ، وكذلك قرىء في القراءات المتواترة .
يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى .
والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون ، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله . وعن مجاهد وقتادة : أنه القلم الذي في قوله تعالى { الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } . قلت : وهذا هو المناسب لقوله { وما يسطرون } في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب .
ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام ، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه . وتعريف { القلم } تعريف الجنس .
فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى .
وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } .
و{ ما يسطرون } هي السطور المكتوبة بالقلم و{ ما } يجوز أن تكون موصولة ، أي وما يكتبونه من الصحف ، ويجوز أن تكون مصدرية . والمعنى : وسطرهم الكتابة سطورا .
ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن ، { وما يسطرون } قسما بكتابتهم ، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى { والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا } في سورة الزخرف . وتنظيره بقول أبي تمام :
ويسطرون : مضارع سطر ، يقال : سطر من باب نصر ، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة . وأصله مشتق من السطر وهو القطع ، لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع .
وضمير { يسطرون } راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة ، والمقصود : المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول . فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين ، فكأنه قيل : والمسطور ، نضير قوله تعالى { وكتاب مسطور في رق منشور } .
ومن فسر { القلم } بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير { يسطرون } راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك ، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير .
وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول صلى الله عليه وسلم واللامزين له بالجنون ، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب .
والمقسم عليه نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام : هو مجنون ، وذلك ما شافهوا به النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه الله عنهم في آخر السورة { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون } . وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله { وما صاحبكم بمجنون } . وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه .
والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون ، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه .
وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف { إن } ولام الابتداء إذ قالوا { إنه لمجنون } بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر ، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات .