مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : من أولها إلى قوله : { سنسمه على الخرطوم } [ القلم : 16 ] مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله : { فهم يكتبون } [ القلم : 47 ] مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : { من الصالحين } [ القلم : 50 ] مدني ، وباقيها . قاله الماوردي{[1]} .
وهي اثنتان وخمسون آية ، وثلاثمائة كلمة ، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا .
قوله تعالى { ن } كقوله { ص والقرآن }[ ص : 1 ] ، وجواب القسم الجملة المنفية بعدها .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هو الحوت الذي على ظهره الأرض ، وهو قول مجاهدٍ ومقاتل والسدي والكلبي{[57488]} .
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون ، فمارت الأرض فأثبتت بالجبال{[57489]} وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ } .
قال الواقديُّ : اسم النون ليوثا .
وقيل : إنه أقسم بالحوت الذي ابتلع يونس - عليه الصلاة والسلام - .
وقيل : الحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه .
وقال الكلبي ومقاتل : اسم الحوت الذي على ظهر الأرض : البَهْمُوت{[57490]} .
4805 - مَا لِي أرَاكُمْ كُلَّكُمْ سُكُوتَا*** واللَّهُ ربِّي خَلقَ البَهْمُوتَا{[57491]}
وروى عكرمة عن ابن عباس : أن نون آخر حروف الرحمن{[57492]} .
وقيل : إنه اسم للدواةِ ، وهو أيضاً مروي عن ابن عباس .
قال القرطبيُّ : وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أوّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلمَ ، ثُمَّ خلقَ النُّون ، وهي الدَّواةُ ، وذلك قوله تعالى " ن " والقلم »{[57493]} ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
4806 - إذَا مَا الشَّوْقُ يَبْرَحُ بِي إليْهِمْ***وألقى النُّون بالدَّمْعِ السِّجامِ{[57494]}
ويكون على هذا قسماً بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابةِ ، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق ، وتارة بالكتابة .
وقيل : النون لوح من نون تكتب فيه الملائكةُ ما يؤمرون به ، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً .
وقيل : النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة .
وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه تعالى ناصر ونور ونصير ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله - تعالى - بنصره للمؤمنين .
وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنَّة يقال له : نون .
وقيل : هو الحرف المعروف من حروف المعجم ، قاله القشيري .
قال : لأنه حرف لم يعرب فلو كان كلمة تامة أعرب به القلمُ ، فهو إذن حرف هجاء ، كما في أوائل السور .
قال الزمخشريُّ{[57495]} : «وأما قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي ، أو شرعي ، ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً ، أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوينُ وإن كان علماً فأين الإعراب ؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام ؛ لأنك إذا جعلته مقسماً به ، وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة والقلم ، وإن كان علماً أن تصرفه وتجره ، أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث ، وكذلك التفسير بالحوت ، إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون ، والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنَّة نحو ذلك » .
قال شهاب الدين{[57496]} : «وهذا الذي أورده أبو القاسم من محاسن علم الإعراب ، وقلَّ من يتقنه » .
وقال ابن الخطيب{[57497]} بعد ذكر القول بأنه آخر حروف اسم الرحمن : وهذا ضعيف ، لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية ، بل الحق هاهنا أنه اسم للسورة ، أو يكون الغرض منه التحدي ، وسائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة .
قرأ العامة : «نُونْ » ساكن النون كنظائره .
وأدغم ابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم{[57498]} بلا خلاف ، وورش بخلاف عنه النون في الواو ، وأظهرها الباقون .
قال الفراء{[57499]} : «وإظهارها أعجب إليَّ ، لأنها هجاء ، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل » ونقل عمن أدغم الغنَّة ، وعدمها .
وقرأ ابن عباس والحسن{[57500]} وأبو السِّمال وابن أبي إسحاقَ : بكسر النون .
وسعيد{[57501]} بن جبير وعيسى بخلاف عنه : بفتحها .
فالأولى على التقاء الساكنين ، ولا يجوز أن يكون مجروراً على القسم حذف حرف الجر وبقي عمله ، كقولهم «اللَّهِ لأفعلَنَّ » ، لوجهين :
أحدهما : أنه مختص بالجلالة المعظمة نادر فيما عداها .
والثاني : أنه كان ينبغي أن ينون ، ولا يحسن أن يقال : هو ممنوع الصرف اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي ألاَّ يظهر فيه الجر بالكسر ألبتة .
وأما الفتح ، فيحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بناء ، وأوثر على الأصل للخفة ك «أين وكيف » .
الثاني : أن يكون مجروراً بحرف القسم المقدر على لغة ضعيفة ، وقد تقدم ذلك في قراءة { فالحقّ والحقِّ }[ ص : 84 ] ، بجرّ «الحقّ » ، ومنعت الصرف اعتباراً بالسورة .
والثالث : أن يكون منصوباً بفعل محذوف{[57502]} ، أي : ، اقرأوا نوناً ثم ابتدأ قسماً بقوله : «والقَلمِ » أو يكون منصوباً بعد حذف حرف القسم ؛ كقوله : [ الوافر ]
-4807 . . . *** فَذَاكَ أمَانَةَ اللَّهِ الثَّريدُ{[57503]}
ومنع الصرف لما تقدم ، وهذا أحسن لعطف العلم على محله .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } .
«ما » موصولة ، اسمية أو حرفية ، أي : والذي يسطرونه من الكتب ، وهم الكتَّاب والحفظة من الملائكة وسطرهم .
والضمير عائد على من يسطر لدلالة السياق عليه ولذكر الآلة المكتتب بها .
وقال الزمخشري{[57504]} يجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في «يَسْطُرونَ » لهم .
يعني فيصير كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ }[ النور : 40 ] تقديره : أو كذي ظلمات فالضمير في «يغْشَاه » يعود على «ذي » المحذوف .
أحدهما : أن المراد به الجنس ، وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض ، قال تعالى :{ وَرَبُّكَ الأكرم الذي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3 ، 4 ، 5 ] ، ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق كما قال تعالى : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان }[ الرحمن : 3 ، 4 ] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر .
والثاني : أنه القلم الذي جاء في الخبر ، عن ابن عباسٍ : أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب قال : ما أكتب ؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عملٍ ، أو أجلٍ ، أو رزقٍ ، أو أثرٍ ، فجرى القلمُ بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال : ثم ختم في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض .
وروى مجاهد ، قال : أول ما خلق الله القلم ، فقال : اكتب القدر ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه{[57505]} .
قال القاضي{[57506]} : هذا الخبر يجب حمله على المجاز ؛ لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة ، ولا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى ؛ فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال ، بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }[ آل عمران : 47 ] فإنه ليس هناك أمر ، ولا تكليف ، وهو مجرد نفاذ القدرةِ في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة .
وقيل : القلم المذكور هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه قد روي في الأخبار : أن أول ما خلق الله القلم .
وفي خبر آخر : أول ما خلق الله العقل ، فقال الجبار : ما خلقت خلقاً أعجب إلي منك ، وعزتي وجلالي لأكلمنك فيمن أحببت ولأبغضنك فيمن أبغضت ، قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكمل النَّاسِ عقلاً أطوْعهُمْ للَّهِ وأعْلمُهُمْ بطاعته{[57507]} .
وفي خبر آخر : أول ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت ، وسخنت ، فارتفع منها دخان وزبد ، فخلق من الدخان السماوات ، ومن الزبد الأرض .
قالوا : فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد ، وإلا حصل التناقض .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } ، أي : وما يكتبون ، يريد : الملائكة يكتبون أعمال بني آدم .
وقيل : وما يكتب الناس ويتفاهمون به .
وقال ابن عباس : معنى { وَمَا يَسْطُرُونَ } وما يعملون{[57508]} .
قال ابن الخطيب{[57509]} : { وَمَا يَسْطُرُونَ } مع ما بعدهما في تقدير المصدر ، فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم ، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابةِ ، ويحتمل أن يكون المرادُ به المسطور والمكتوب ، فإن حمل القلم على كل قلم في مخلوقات الله تعالى ، فكأنه تعالى أقسم بكل قلم ، وبكل ما يكتب بكل قلم . وقيل : المرادُ ما يسطرهُ الحفظة الكرام ، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في «يَسْطرُونَ » لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ، وسطرهم ، أو مسطوراتهم ، وإن حمل على القلم المعين ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله «ومَا يَسْطُرونَ » ، أي : وما يسطرون فيه ، وهو اللوح المحفوظ ، ولفظ الجمع في قوله «يَسْطُرونَ » ليس المراد منه الجمع بل التعظيم ، ويكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من جميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة .