في السورة تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وثناء عليه ، وحملة على المكذبين وإنذار لهم ، وصور لمواقفهم من الدعوة . وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار ، كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم .
ومضمون الأربع الأولى منها والتالية لها ، يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة ، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما ، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة . وترتيبها كثانية السور نزولا ًهو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها . وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى . فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحاً وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معاً ، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحاً والحالة هذه ، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشيء . وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [ 17-33 ] و[ 48-50 ] مدنيات . وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك .
وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها . وهذا يسوغ القول : إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولاً متلاحقة ، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى .
1 - يسطرون : من سطر بمعنى كتب .
وعلى تقدير أن حرف ( ن ) من الحروف المتقطعة المماثلة للحروف التي بدئت بها سور عديدة أخرى نقول : إن هذه السور [ 29 ] وهي سورة البقرة وآل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة ويس وص وغافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وق ون . وهناك من يخرج ( طه ) و( يس ) ويقول إنهما اسمان للنبي صلى الله عليه وسلم و( ق ) ويقول إنه اسم جبل بالإضافة إلى ( ن ) التي قال بعضهم إنه الحوت أو الدواة كما ذكرنا آنفا . وهناك من يجعل هذه الأربعة كسائر الحروف .
وليس هناك أثر نبوي وثيق في مدى ومغزى هذه الحروف التي جرى التواتر غير المنقطع على قراءتها بأسمائها ( ألف . لام . ميم إلخ ) وقد تعددت روايات وأقوال المفسرين في هذا المدى والمغزى{[2271]} . منها أنها رموز إلى أسماء الله تعالى أو صفاته . أو أقسام أقسم الله تعالى بها ، أو أسماء للسور ، أو أريد بها تحدي الكفار بالقول إن القرآن إنما هو حروف وكلمات من جنس ما يعرفونه فليأتوا بمثله أو بشيء منه . وهناك من فضل عدم التخمين ووكل علمها وحكمتها إلى الله تعالى . وهناك من خمن أنها أو أن بعضها احتوى أسراراً أو ألغازاً دنيوية مغيبة . وهناك من روى أنها لحساب المدة الباقية من الدنيا بحساب الأرقام التي ترمز إليها الحروف في حساب الأبجدية التي ترتيبها ( أ ب ج د ه و ز ح ط ) ( ي ك ل م ن س ع ف ص ) ( ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ ) حيث تحسب الحروف التسعة الأولى أرقام آحاد من الواحد إلى التسعة والحروف التسعة التالية أرقام عشرات إلى التسعين والحروف العشرة التالية أرقام المئات إلى الألف ويبلغ مجموع أرقام جميع الحروف على هذا الحساب ( 3295 ) وهذا الترتيب والحساب هو ترتيب الأبجدية العبرانية وحساب اليهود لها باستثناء الحروف الستة الأخيرة التي ليس لها نظير في هذه الأبجدية .
وقد طلع باحث عربي مؤخراً برأي يقول فيه : إنها ترمز إلى عدد آيات السور التي جاءت في مطلعها على أساس ذلك الحساب{[2272]} .
وهناك قول معزو إلى ابن عباس رضي الله عنه بأنها للتنبيه واسترعاء الأسماع أي من نوع هلا ، ألا . ولقد روى الترمذي حديثا في سياق أوائل سورة الروم جاء فيه " إنها لمّا نزلت خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة : " آلم ، غلبت الروم " {[2273]} الآيات ونحن نرجح هذا القول . واتباع الحروف في معظم السور بالتنويه بالقرآن وبجمل قسمية به مما يقوي في نظرنا هذا الترجيح . وهو ما أخذنا به مع القول : إن تنوع الحروف التي أريد بها الاسترعاء والتنبيه متصل بحكمة التنزيل . ولا بأس بالقول إنها أقسام ربانية وردّ حكمة ذلك وعلمه إلى الله عز وجل أيضا قول عليم حكيم متسق مع مذهب السلف الإسلامي الأول في تجنب الخوض والتخمين والمراء في العبارات القرآنية التي يصعب على الأفهام اكتناه كنهها . وحساب الحروف لاستخراج عدد السنين الباقية للدنيا أو محاولة الاستدلال بها على عدد آيات السور في مرحلة من المراحل أو القول بأنها تنطوي على أسرار وألغاز ورموز لأحداث مغيبة مستقبلة يؤدي إلى القول : إن في القرآن إن في أسراراً خفيت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو كتمها عن أصحابه ، وليس من أثر نبوي وثيق في ذلك . ولا يجوز أن يُظن أن الله تعالى أخفاها عن النبي أو أن النبي أخفاها عن أصحابه ، والقرآن يقرر أن الله أنزله ليتدبر الناس آياته ويعلقوها وأن الله أمر يبين للناس ما نزل إليه من ربه .
والآية الأولى تضمنت قسماً ربانياً ، والآيات الثلاث هي جوابه . والأيمان الربانية أسلوب قرآني مألوف كثير الورود والصور ، بسبب كون الأيمان أسلوبا تخاطبياً مألوفاً كما هو المتبادر . وهناك سور عديدة تبدأ بالأيمان مما يمكن أن يعتبر كأسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور .
ولقد تنوع المقسم به تنوعاً كبيراً فشمل مشاهد الكون السماوية والأرضية وموجوداته الحية والجامدة . غير أن الذي يتبادر من المقسم به وأسلوب القسم أن ذلك مما له خطورة في أذهان الناس أو واقع حياتهم . سواء أكان ذلك بسبب ما فيه من عظمة مشهد وروعة مظهر وقوة صورة ، أم بسبب ما يثيره من معان وآثار نفسية ، أم بسبب ما له من نفع عظيم ، أم بسبب ما يتصل به من عادات وتقاليد ومفهومات . وإن مما هدفت إليه الأقسام التوكيد واسترعاء الأذهان والأسماع لما يأتي بعد القسم من تقريرات متنوعة الأهداف والمعاني .
وأقوال عن مدى ( القلم ) في الآية
لقد أورد المفسرون في سياق الآية الأولى أحاديث عديدة عن معنى القلم مفرداً ومعناه ومعنى النون معا . منها حديث ورد في كتب الأحاديث المعتبرة أو الصحيحة حيث روى الترمذي وأبو داود حديثاً جاء فيه : " قال عبادة بن الصامت لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " {[2274]} . ومنها ما رواه المفسرون بطرق أخرى ، من ذلك حديث أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما خلق الله القلم والحوت . فقال للقلم : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة . ثم قرأ { ن والقلم وما يسطرون ) [ القلم : 1 ] . فالنون الحوت والقلم القلم " .
وحديث أورده ابن كثير رواه ابن عساكر عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له : اكتب قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما يكون أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل ، فكتب ذلك إلى يوم القيامة . فذلك قوله { ن والقلم وما يسطرون } . ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة . ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنّك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت " . وحديث رواه ابن جرير الطبري مروياً عن معاوية بن قرة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ن والقلم وما يسطرون } . لوح من نور . وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة " . وأورد المفسرون أقوالا عن بعض التابعين تفيد أن القلم المقسم به في الآية هو هذا القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن . ومع ذلك فقد قالوا أيضا إنه أريد بالقلم المقسم به جنس القلم مطلقا وأريد بالقسم به تعظيم الكتابة وأدواتها ؛ حيث يفيد هذا أن الذين قالوا هذا لم يأخذوا الأحاديث النبوية كتفسير قاطع للمراد بالقلم المقسم به في الآية . ونحن نرى هذا هو الأوجه . ولعل اتباع القلم بجملة وما يسطرون وسبقه بكلمة نون المفسرة بالدواة من مقويات هذا الترجيح ؛ لأن صيغة المضارع تفيد الحاضر والمستقبل في حين أن أمر الله للقلم المذكور في الأحاديث هو في صدد أمر مضى . كما أن الاتساق في المعنى والموضوع بين معنى وعمل القلم هنا وفي آيات سورة العلق من مقوياته أيضا ، والله أعلم .
وما احتوته الأحاديث من كتابة المقادير بالقلم على اللوح متصل ببحثي القدر واللوح مما سوف يكون موضوع تعليق في مناسبات آتية .