السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ن وتسمى القلم مكية ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم : من أولها إلى قوله تعالى : { سنسمه على الخرطوم } مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : { يعلمون } مدني ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : { فهم يكتبون } مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : { من الصالحين } مدني ، وباقيها مكي ، قاله الماوردي .

وهي اثنتان وخمسون آية ، وثلاثمائة كلمة ، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفاً .

{ بسم الله } أي : الذي له الإحاطة الكاملة ، فهو بكل شيء عليم { الرحمن } الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده ، البريء منهم والسقيم ، { الرحيم } الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته ، فألزمه صراطه المستقيم .

وقوله تعالى : { ن } كقوله تعالى : { ص والقرآن } [ ص : 1 ] وجواب القسم الجملة المنفية بعدها .

واختلفوا في تفسير ذلك ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو قول مجاهد ومقاتل والسدّي والكلبي ، وروى أبو طيبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن } الآية » .

واختلفوا في اسمه فقال الكلبي ومقاتل : يهموت ، وقال الواقدي : ليوثا ، وقال كعب : لوثا ، وقال علي : تلهوت ، وقال الرواة : لما خلق الله تعالى الأرض وفتقها ، بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين حتى ضبطها ، فلم يكن لقدميه موضع قرار ، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه ، فأخذ الله تعالى ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها خمسمائة عام ، ووضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً ، فإذا تنفس يمتد البحر وإذا ردّ نفسه جزر البحر ، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه : فتكن في صخرة . ولم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم ووضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر ، والبحر على متن الريح ، والريح على القدرة ثقل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار : كوني فكانت .

قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض ، فوسوس إليه فقال له : أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال ، لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك ، فهمّ لويثا أن يفعل فبعث الله تعالى دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه ، فعج الحوت إلى الله تعالى منها ، فأذن الله تعالى لها فخرجت ، فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت .

وقال بعضهم : نون آخر حروف الرحمن وهي رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون : الدواة ، وهو مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال القرطبي : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة » . ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشوق برح بي إليهم *** ألقت النون بالدمع السجام

ويكون على هذا أقسم بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابة ، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق وتارة بالكتابة ، وقيل : النون : لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يؤمرون به ، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً ، وقيل : النون : هو المداد الذي تكتب به الملائكة . وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه تعالى نصير ونور وناصر .

وقال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصرة المؤمنين .

وقال الزمخشري : هذا الحرف من حروف المعجم ، وأما قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ، وإن كان علماً فأين الإعراب وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام . فإن قلت : هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة { والقلم } وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث .

وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً لليهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة نحو ذلك ا . ه .

تنبيه : في القلم المقسم به قولان : أحدهما : أن المراد به الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض ، قال تعالى : { وربك الأكرم 3 الذي علم بالقلم 4 علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 3 5 ] ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق ، قال تعالى : { خلق الإنسان 3 علمه البيان } [ الرحمن : 3 4 ] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر ، والثاني : أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما : أول ما خلق الله تعالى القلم ، ثم قال له : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال : ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض .

وروى مجاهد أول ما خلق الله تعالى القلم فقال : اكتب المقدر ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنما يجري في الناس على أمر قد فرغ منه ، قال ابن عادل : قال القاضي : هذا الخبر يجب حمله على المجاز ، لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى ، فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال ، بل المراد منه إنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو قوله تعالى : { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [ آل عمران : 47 ] فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة ، اه .

وقوله : فإن الجمع إلى قوله : محال ، ممنوع فإن الله تعالى خلق فيه ذلك كما قال تعالى للسموات والأرض : { ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقال الزمخشري : أقسم بالقلم تعظيماً له لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيطها الوصف .

وقيل : القلم المذكور هاهنا هو العقل وإنه شيء كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه روي في الأخبار : أول ما خلق الله تعالى القلم ، وفي خبر آخر : «أول ما خلق الله تعالى العقل ، فقال الجبار : ما خلقت خلقاً أعجب إليَّ منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ، قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلاً أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته » . وفي خبر آخر : أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وسخنت فارتفع منها دخان وزبد ، فخلق من الدخان السماوات ومن الزبد الأرض ، قالوا : وهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات ، شيء واحد ، وإلا حصل التناقض . وقال البغوي : القلم هو الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض ، ويقال : أول ما خلق الله تعالى القلم ونظر إليه فانشق نصفين ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك .

وقرأ قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة وورش بخلاف عنه بإظهار النون عند الواو هنا والباقون بالإدغام .

{ وما يسطرون } أي : الملائكة من الخير والصلاح ، وقيل : وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم ، وقيل : ما يكتبون ، أي : الناس ويتفاهمون به ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : معنى { وما يسطرون } : وما يعملون ، وما موصولة أو مصدرية . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة ، وقال البقاعي : وما يسطرون ، أي : قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولي العلم للتعظيم ، لأنه فعل أفعالهم ، أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، وإما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم .