سورة ن وتسمى القلم مكية ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم : من أولها إلى قوله تعالى : { سنسمه على الخرطوم } مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : { يعلمون } مدني ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : { فهم يكتبون } مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : { من الصالحين } مدني ، وباقيها مكي ، قاله الماوردي .
وهي اثنتان وخمسون آية ، وثلاثمائة كلمة ، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفاً .
{ بسم الله } أي : الذي له الإحاطة الكاملة ، فهو بكل شيء عليم { الرحمن } الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده ، البريء منهم والسقيم ، { الرحيم } الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته ، فألزمه صراطه المستقيم .
وقوله تعالى : { ن } كقوله تعالى : { ص والقرآن } [ ص : 1 ] وجواب القسم الجملة المنفية بعدها .
واختلفوا في تفسير ذلك ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو قول مجاهد ومقاتل والسدّي والكلبي ، وروى أبو طيبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن } الآية » .
واختلفوا في اسمه فقال الكلبي ومقاتل : يهموت ، وقال الواقدي : ليوثا ، وقال كعب : لوثا ، وقال علي : تلهوت ، وقال الرواة : لما خلق الله تعالى الأرض وفتقها ، بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين حتى ضبطها ، فلم يكن لقدميه موضع قرار ، فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه ، فأخذ الله تعالى ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها خمسمائة عام ، ووضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً ، فإذا تنفس يمتد البحر وإذا ردّ نفسه جزر البحر ، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه : فتكن في صخرة . ولم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم ووضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر ، والبحر على متن الريح ، والريح على القدرة ثقل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار : كوني فكانت .
قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض ، فوسوس إليه فقال له : أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال ، لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك ، فهمّ لويثا أن يفعل فبعث الله تعالى دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه ، فعج الحوت إلى الله تعالى منها ، فأذن الله تعالى لها فخرجت ، فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت .
وقال بعضهم : نون آخر حروف الرحمن وهي رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون : الدواة ، وهو مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال القرطبي : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة » . ومنه قول الشاعر :
إذا ما الشوق برح بي إليهم *** ألقت النون بالدمع السجام
ويكون على هذا أقسم بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابة ، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق وتارة بالكتابة ، وقيل : النون : لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يؤمرون به ، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً ، وقيل : النون : هو المداد الذي تكتب به الملائكة . وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه تعالى نصير ونور وناصر .
وقال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصرة المؤمنين .
وقال الزمخشري : هذا الحرف من حروف المعجم ، وأما قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ، وإن كان علماً فأين الإعراب وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام . فإن قلت : هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة { والقلم } وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث .
وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً لليهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة نحو ذلك ا . ه .
تنبيه : في القلم المقسم به قولان : أحدهما : أن المراد به الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض ، قال تعالى : { وربك الأكرم 3 الذي علم بالقلم 4 علم الإنسان ما لم يعلم } [ العلق : 3 5 ] ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق ، قال تعالى : { خلق الإنسان 3 علمه البيان } [ الرحمن : 3 4 ] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر ، والثاني : أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما : أول ما خلق الله تعالى القلم ، ثم قال له : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال : ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض .
وروى مجاهد أول ما خلق الله تعالى القلم فقال : اكتب المقدر ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنما يجري في الناس على أمر قد فرغ منه ، قال ابن عادل : قال القاضي : هذا الخبر يجب حمله على المجاز ، لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى ، فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال ، بل المراد منه إنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو قوله تعالى : { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [ آل عمران : 47 ] فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة ، اه .
وقوله : فإن الجمع إلى قوله : محال ، ممنوع فإن الله تعالى خلق فيه ذلك كما قال تعالى للسموات والأرض : { ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقال الزمخشري : أقسم بالقلم تعظيماً له لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيطها الوصف .
وقيل : القلم المذكور هاهنا هو العقل وإنه شيء كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه روي في الأخبار : أول ما خلق الله تعالى القلم ، وفي خبر آخر : «أول ما خلق الله تعالى العقل ، فقال الجبار : ما خلقت خلقاً أعجب إليَّ منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ، قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلاً أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته » . وفي خبر آخر : أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وسخنت فارتفع منها دخان وزبد ، فخلق من الدخان السماوات ومن الزبد الأرض ، قالوا : وهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات ، شيء واحد ، وإلا حصل التناقض . وقال البغوي : القلم هو الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض ، ويقال : أول ما خلق الله تعالى القلم ونظر إليه فانشق نصفين ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك .
وقرأ قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة وورش بخلاف عنه بإظهار النون عند الواو هنا والباقون بالإدغام .
{ وما يسطرون } أي : الملائكة من الخير والصلاح ، وقيل : وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم ، وقيل : ما يكتبون ، أي : الناس ويتفاهمون به ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : معنى { وما يسطرون } : وما يعملون ، وما موصولة أو مصدرية . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة ، وقال البقاعي : وما يسطرون ، أي : قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولي العلم للتعظيم ، لأنه فعل أفعالهم ، أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، وإما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.