الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

قوله : { ن } : كقوله : { ص وَالْقُرْآنِ } [ ص : 1 ] وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها . وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان . وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه . قال الزمخشري : " وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري : أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ ، ولا يَخْلو إذا كان اسماً للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً أو عَلَماً ، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب ؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه ، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ ، كأنه قيل : ودَواةٍ والقلم ، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه ، أو لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ : إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ ، أو يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون ، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ أو ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ " . وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه .

وقرأ العامَّةُ : " ن " ساكنَ النونِ كنظائرِه . وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو ، وأظهرها الباقون ، ونُقِلُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ ، وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بفتحِها ، فالأُولى على التقاءِ الساكنين . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم ، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم : " اللَّهِ لأفعلَنَّ " لوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة ، نادرٌ فيما عداها . والثاني : أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ . ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال : هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة البتةَ .

وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ بناءً ، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ . الثاني : أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ/ على لغةٍ ضعيفة . وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ " فالحقِّ والحقِّ " [ ص : 84 ] . بجرِّ " الحقِّ " ، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ ، اعتبارٌ بالسورة ، والثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : اقرؤوا نونَ ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه " والقلمِ " ، أو يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ حرفِ القسم كقولِه :

4290 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ

ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم ، وهذا أحسنُ لعَطْفِ " والقلمِ " على مَحَلِّه .

قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } " ما " موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية ، أي : والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب ، وهم : الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم . والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه . ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها . وقال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه ، فيكون الضميرُ في " يَسْطُرون " لهم " يعني فيصيرُ كقولِه : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] تقديرُه : أو كذي ظُلُماتٍ ، فالضميرُ في " يَغْشاه " يعود على " ذي " المحذوف .