سورة ن{[1]} وتسمى سورة القلم
مقصودها إظهار ما استتر ، وبيان ما أبهم في آية " فستعلمون من هو في ضلال مبين " بتعيين المهتدي{[2]} الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم ، الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان ، الذي هو صفة الرحمن بقدر{[3]} الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان ، وأدل ما فيها على هذا الغرض " ن " وكذا و " القلم " فلذا سميت بكل منهما ، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك{[4]} ، وحاصله أن النون {[5]}مبين محيط{[6]} في بيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره ، وكما تحيط الدواة بمدادها ، بآية ما دل عليه {[7]} بمخرجه وصفاته{[8]} ، واستقر الكلام الواقع فيها{[9]} وفي المعاني التي اشتركت في لفظه ، وأما{[10]} القلم فإبانته للمعارف{[11]} أمر لا ينكر ( بسم الله ) الذي له الإحاطة الكاملة ، فهو على كل شيء قدير ، لأنه بكل شيء عليم ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم ، ( الرحيم ) الذي/أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته ، فألزمه الصراط المستقيم .
لما أبهم الضال والمهتدي في آخر " الملك " والمسيء والمحسن في العمل أولها ، وختم بآية الماء المعين الذي دلت حروفه بمجموعها على تمام معناه ، ودل كل واحد منها على شيء منه ، فدلت ميمه على تمام شيء ظاهر ، وعينه على آية هادية ، وياؤه على قائم ملطف متنزل مع كل مقام ، ونونه على مظهر مبين محيط بما أظهره ، وردهم سبحانه إليه بعد شرادهم{[67195]} عنه بالاستفهام في هذه الآية بما نبههم عليه من عجزهم وعجز كل من يدعونه من دونه ، وأنه لا يقدر على الإتيان بذلك الماء الذي هو حياة الأشباح بعد ذهابه إلا من تمت قدرته ، فكان قادراً على كل ما يريد ، وكان لا يقدر على كل{[67196]} ما يريده إلا من كمل علمه الذي يحيي به ميت{[67197]} الأرواح ، دل على شمول قدرته بكمال علمه بما أفاده على هذا النبي الكريم الأمي من العلوم التي زخرت بحارها ، فأحيا مدرارها ، وأغرق تيارها ، فافتتح هذه السورة بكلمة البيان ، وهو اسم الحرف الذي هو آخر حروف تلك ، ومن لوازم بعض ما دل عليه الماء الذي هو الحياة المصححة ، ونبه على {[67198]}نصبه له{[67199]} سبحانه دليلاً على العلم{[67200]} بما دل عليه من مخرج مسماه وصفاته ومواقعه في الكلم في جميع تقلباته فقال : { ن } هذه الكلمة حرف من حروف المعجم وهي{[67201]} اسم لمسمى به ظهور الأشياء وعلمها وإدراكها ، كما دل عليه موقعه في اسم النور والنار والنيل والنمو والنباهة والنقاء والنصح والنبأ والنجابة والنجاة والنحت والندم ، وقد تقدم في البقرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف ، ولا يعلم ما هي إلا واضعها سبحانه .
ولما كان هذا الحرف مشتركاً في اللغة بين حرف المعجم والدواة والحوت وشفرة السيف ، سكن للدلالة بادىء بدء على أنه حرف ، ولا يمنع إسكانه المتأصل في البناء من إرادة بقية المعاني ، لأن العرب ربما سكنت الكلمة بنية الوقف تنبيهاً على عظمة معناها ، فلا يلزم من الإسكان عن غير عامل البناء ، وقيل : النون اللوح ، والنونة الكلمة من الصواب ، والسمكة ، فهو صالح لحرف المعجم الكلي الصالح لكل{[67202]} فرد ، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه آخر حروف الرحمن{[67203]} والدواة لما يتأثر عنها من العلوم ، والحوت الذي على ظهره الكون واسمه البهموت ، لما في ذلك من عجائب القدر والأسرار ، ويكون الإقسام {[67204]}وقع بالنون{[67205]}سفلا والقلم علواً للإحاطة ، والسيف لما يتأثر عنه{[67206]} من جليل الآثار ، وكيفما كان المراد فهو الإحاطة ، وهو سر باطن لا يظهر ، وإنما تظهر نتائجه ، فهو{[67207]} الحكم ونتائجه القضاء والقدر بالإشقاء أو{[67208]} الإسعاد .
ولما كان هذا الحرف آية الكشف للأشياء ، كان مخرجه أمكن المخارج وأيسرها وأخفها وأوسعها{[67209]} وهو رأس المقول ، فإنه يخرج مما{[67210]} بين طرف اللسان وفويق الثنايا{[67211]} من اللثة ، وهو أخرج من مخرج اللام ومن مخرج الراء أيضاً ، وتسمى هذه الحروف الثلاثة{[67212]} الزلقية مع بقية حروف " فر من لب " لأن طرف كل شيء زلقة ، والنون أمكنها في هذا المخرج وأشدها انطباقاً فيما بين اللسان واللثة ، وهو مما كرر مسماه في اسمه فانتهى إلى حيث ابتدأ ، واختص بكون عماده وقوامه الحرف الأقوى الأظهر ذا الرفعة والعلو وهو الواو والزلقية التي هو أحدها ضد المصمتة{[67213]} وهي أخف الحروف على اللسان وأكثرها امتزاجاً بغيرها ، وأما المصمتة فمنعت{[67214]} أن تنفرد بنفسها في لغة العرب في كلمة هي أكثر من ثلاثة أحرف ، بل لا بد أن يكون معها بعض الزلقية ، والألف خارجة {[67215]}عن الصنفين{[67216]} لأنها مجرد إهواء لا مستقر لها ، فقد ناسبت بمخرجها لسعته وخفته ، ووصفها بالزلاقة التي تقع لما اتصف بها من الحروف الكمال{[67217]} غنية عن سواها ولا يقع لما لم يخالطها كمال فيما ذكر ما{[67218]} ذكر من أن معناها البيان والإظهار ومن صفاتها الجهر وبين الشدة والرخاوة والانفتاح والاستفال ، والغنة الخارجة من الخيشوم إذا سكن ، وكل هذا واضح في العلم الذي له الاتساع والانتشار والتغلغل في الأشياء الباطنة ، ويشاركه الميم في الغنة كما أنه يشاركه في أن له حظاً من الظهور والنون وهو الأصل في الغنة كما أنه{[67219]} الأصل في الظهور لما له من العلو بالعماد ، وهو أيضاً من حروف الذبذبة والزيادة التي لا تستقر على حال ، فتقع مرة زوائد وأخرى أصولاً ، كما أن العلم أيضاً كذلك لا استقرار له بل مهما وسعته اتسع ، ومهما تركته اضمحل وانجمع ، وهو من حروف الإبدال التي تبدل من غيرها ولا يكون غيرها بدلاً منها ، فلازب ولازم الميم بدل من الباء ، بخلاف العكس ، كما أن العلم أصل يتبعه غيره ولا يكون هو تابعاً لغيره ، وهي{[67220]} من الحروف الصحيحة وليست معتلة ، والعلم جدير بهذا الوصف ، وهو إذا كان مخفي{[67221]} من الحروف المشربة ويقال لها المخالطة - بكسر اللام وفتحها ، وهي التي اتسعت فيها العرب فزادتها على التسعة والعشرين المستعملة وهي{[67222]} من الحروف الصم وهي ما عدا الحلقية ، {[67223]}سميت بذلك لتمكنها في خروجها{[67224]} من الفم واستحكامها فيه ، يقال للمحكم المصمت و{[67225]}العلم أشد ما يكون مناسبة لهذا الوصف ، فقد انطبقت بمخرجها وجميع صفاتها على العلم الذي هو مقصود السورة فتبين حقاً أنه مقصودها ، وأما رتبة القلم في بيان{[67226]} العلم وإظهاره وكشف خفاياه وأسراره وبثه وإشهاره ، فهي بحيث لا يجهلها أحد اتصف بالعقل ، ومما يختص به هذا الحرف أنه يصحب كل حرف ، لأن حده هو ما يعبر عنه التنوين الذي انتظامه بالحركات ، هو ما آيته العلم المكمل {[67227]}به الحياة{[67228]} التي هي آية ما يعبر عنه هذه الحركات ، فلما كانت هذه الحركات آية على ما هو الحياة ، كان التنوين عقبها آية على ما به كمال الحياة من العلم ، وهو سبب لما به القيام من{[67229]} الظهور ، ومن معناه اسمه تعالى النور ، ثم {[67230]}هو اسم لكل ما يظهر ما{[67231]} خفي باطناً كالعلم في الإدراك الذي تظهر حقائق الأشياء به ، وظاهراً كالنيرين للعيون ، وسائر الأنوار الظاهرة والباطنة ، وما هو وسيلة الظهور كالعيون مما به تشاهد الأشياء ويظهر به{[67232]} صورها ، والدواة التي منها مداد ما كتب بالقلم في العوالم أعلاها وأدناها ، وكل آلة يتوصل بها إلى إظهار صورة تكون تماماً كماء المزن ، الذي هو مداد كل شيء كوّن الله به الكائنات والبادئات " وجعلنا من الماء كل شيء حي " ومنه معنى النجم النباتي الذي هو للشجر بمنزلة الفول للبشر متلبساً{[67233]} بالنور - بالفتح - الذي فيه حظ من النور - بالضم - والذرء الذي هو ظاهر في نفسه مظهر لطرق الاهتداء ، وكذلك الأمر في النار المخلصة من رتبة ظلمتها التي هي غايتها بالرماد ، وابتداؤها بما يخرج منه من شجر وحديد وحجر .
ولما كان هذا الحرف اسماً لما به ظهور أمر لم يختص بشيء من المظهرات دون آخر ، بل شمل النور والحاسة والمراد والمادة ، ولذلك كان مع الكاف الذي هو علم التكوين سبب ظهور كل شيء .
{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }[ النحل : 40 ] ولصدقه على كل{[67234]} مظهر فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالدواة ، ففسر بما يستمد منه القلم ، وليلحظ موقعه في نجد ، فإنه اسم لما ارتفع من الأرض ، وظهر في نفسه وأظهر غيره ، وفي نهود الجارية وهو ظهور نهدها ، {[67235]}وفي{[67236]} النهب وهو ما أخذ أخذاً ظاهراً كما قال صلى الله عليه وسلم{[67237]} " ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم " وفي النفخ والنفع والنصر والنقر والنقب وما أشبهها ، فإنها كلها ظهور وإظهار كالنم والمن والنمء . ولأجل علوه واستبطانه وأنه استغراق المظهر المبين كانت إقامته {[67238]}يتعالى{[67239]} الألف وهو الواو وانتهاؤه إلى مثل ما بدأ به ، ولكون الميم تماماً كان قوامه بمتنزل كالألف التي هي الياء{[67240]} في قولك ميم ، ولرجوع الواو إلى علو الألف كان عمادها الألف في قولك " واو " وهذه الحروف الثلاثة ظاهرة في عالمين ظاهرهما المبدوء به{[67241]} وباطنهما المختوم به ، فالنون الأولى يعبر بها عن نور الأبصار ، والخاتمة يعبر بها عن نور القلب ، ولما كان الهاء وتر الدال ، وكان محيطاً باطناً غيباً ، وجب أن يكون محل تضعيفه بالياء محل محيط باطن{[67242]} نازل الرتبة في الغيب عن الهاء لوقوعه في رتب العشرات وهو النون ، فكان ظاهراً بالإضافة {[67243]}إلى خفاء الهاء باطناً بالإضافة{[67244]} إلى ظهور الميم ، فيكون بالنون ظهور الميم المعبر عن " الملك " الذي سبق في السورة الماضية ، كما كان{[67245]} شهادة الدال وثبوته بالهاء .
ولذلك انبنى تمام كل عمل على نور علم ، كما كان قوام ظاهر كل دال غير هاء ، وكان النون مداداً{[67246]} لمثل العلم الذي يظهر صورها بسطر القلم ، حتى أن آية ما بطن منه فأظهره القلم ، هو ما بطن دون الأرض من النون الذي عليه الأرض ، الذي أول ما يطعمه أهل الجنة زيادة كبده مع الثور الذي عليه الأرض أيضاً{[67247]} الذي يذبح لهم - على ما ورد في الخبر ، وقابل استبطان النون في الأرض ظهور القاف على ظاهرها ، الذي هو جبل الزبرجد المحيط بالدنيا ، وعن ذلك الاستيلاء على القلوب في الدنيا إنما يكون بالعلم الذي هو حقيقة نون ، كما أن الاستيلاء على الأجسام في ظاهر الدنيا إنما يكون بالقدرة التي هي حقيقة قاف ، على ما يظهر من إجالتي العلماء في النون الأبطن ، والملوك في القاف الأظهر ، وهذان الصنفان{[67248]} من الخلق هما المستوليان على الناس بالأيالة ونفوذ الأمر ، ولذلك أقيم المفصل من القرآن بحرفي قاف ونون ، واقترن أيضاً هذان{[67249]} الحرفان في كلمة القرآن ولفظ الفرقان اللذين هما في ظواهر أسمائه ، وإنما كان أول ما يطعمه أهل الجنة من الثور الذي عليه الدنيا الذي كان{[67250]} يرعى في أطراف الجنة - على ما ورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، لأن صورة الثور هي معنى ما هو الكد والكدح{[67251]} وجهد{[67252]} العمل في الأرض الذي قام عليه أمر الدنيا ، ولما كان أهل الدنيا أول ما يراحون منه من أمر الدنيا تقديم أمر الكد بين يدي معاشهم في الجنة ، كان الذي يذبح{[67253]} لهم الثور الذي هو صورة كدهم فيأكلونه ، فهو جزاء ما عملوا به في دنياهم من حيث كانوا ذوي دين ، فاستحقوا بذلك جزاء كدهم بما هو صورته ، وأضيف لذلك زيادة{[67254]} كبد النون التي{[67255]} هي صورة حظهم من أصل العلم ، فأطعموها وجوزوا بها ، وروعي في أعمالهم حسن نيتهم في أصل دينهم ، فلما أتوا عليهما استقبلوا الراحة والخروج عن الكلفة في معاشهم في الجنة ، والذي جرهم به سبحانه إلى سني هذه الرتبة ما أتقنه بحكمته من ثناء المفصل القرآني على حرفي القاف الذي به {[67256]}القوة والقهر{[67257]} والقدرة ، والنون الذي به إظهار ذلك للعقل بنور العلم ، و{[67258]}ذلك أن القرآن نزله سبحانه مثاني ، ضمّن ما عدا المفصل منه الذي هو{[67259]} من قاف إلى خاتمة الكتاب العزيز ، وفاتحته ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف العلية{[67260]} الإحاطة الغيبية المنحى المستندة إلى آحاد الأعداد ، مما يختص بعلم ظاهرها خاصة الأمة ، ويختص بأمر باطنها آل محمد صلى الله عليه وسلم ، فلعلو رتبة إيراد ما عدا المفصل ثنى {[67261]}الحق تعالى{[67262]} الخطاب وانتظمه في سور{[67263]} كثيرة العدد يسيرة عد الآي هي المفصل ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والأنباء وأمر الجزاء ، ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه ، وليأخذوا بحظ مما أخذ الخاصة ، ويتكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة{[67264]} التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلقاً مما يفوتهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف القاف الذي هو وتر الآحاد حتى صارت عشرة ، ثم إذا ضربت{[67265]} في نفسها صارت مائة ، فافتتح به المفصل ، ليكون مضمون ما يحتوي عليه أظهر مما يحتوي عليه ما افتتح ب الم ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة سورة " ق " {[67266]} فيفتتح للعامة المتوجه بخطبة يوم الجمعة إليهم ، لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة " ن " {[67267]} المظهرة ظاهر " ق " فخصوا بما فيه القهر والإبانة ، واختصت سورة " ن " من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين ، لأن القوة المعربة عن العلم ، ربما كان ضررها أكثر من نفعها ، كما قال بعض السلف : كل عز لم يوطده علم فإلى ذل يؤول ، وكما كان جميع السور{[67268]} التسع والعشرين المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع في التسعة وللعاشر الجامع للمراتب التسع بإيتار{[67269]} آحادها ، والعاشر الجامع يضرب العشر الموتر في نفسه قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، كذلك كانت سورة " ق " وسورة " ن " قواماً خاصاً وإحاطة{[67270]} خاصة بما يخص العامة من القرآن الذي يجمعهم الأرض بما أحاط من ظاهرها من صورة جبل " ق " وما أحاط بباطنها من صورة حيوان " ن " الذين تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما{[67271]} ، وبهذه السورة المفتتحة بالحروف{[67272]} ظهر اختصاص القرآن وتميز عن سائر الكتب لتضمنه الإحاطة التي لا تكون إلا {[67273]}للخاتم الجامع{[67274]} ، واقترن من التفصيل في سورها ما يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإبهامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها صحيحاً في إحاطتها بمتنزلها{[67275]} من أسماء الله وترتبها في{[67276]} جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك ، لأنه كلما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما يقتضيه ، ومهما فسرت به من{[67277]} أسماء الله أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء ، أو من مثل{[67278]} الأشياء أو صور الموجودات ، أو من أنها أقسام أقسم بها أو فواتح عرفت بها{[67279]} السور أو{[67280]} أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو{[67281]} باطنه على اختلاف رتب وأحوال ، مما أعطيه المنزل عليه صلى الله عليه وسلم من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة ، وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا يختص بمحل مخصوص يلزمه علامة إعراب مخصوصة ، فمهما قدر{[67282]} في مواقعها من هذه السور{[67283]} جراً أو رفعاً أو نصباً فداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها{[67284]} معنى خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها{[67285]} مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم {[67286]}ما يتم معنى{[67287]} كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر{[67288]} عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى{[67289]} وقع استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام{[67290]} .
ولما كان قوام هذا الوجود بالسيف والقلم ، وكان " نون " {[67291]} مشتركاً بين معان منها السيف والدواة التي هي آلة القلم ، واللوح الذي هو محل ما يثبت {[67292]}من العلم{[67293]} ، وكان السيف قد تقدم في حيز القاف الذي افتتحت به سورة " ق " كما هو أنسب لتضمنه{[67294]} القوة والقدرة والقهر{[67295]} في سورة الحديد بعد الوعظ والتهديد والتذكير بالنعم في السورة الواقعة بينهما ، ذكر هنا ما هو لحيز النون من آية العلم فقال مقسماً بعد حرف " ن " {[67296]} : { والقلم } أي قلم القدرة الذي هو أول ما أبدعه الله ، ثم قال له : اكتب ، فخط جميع الكائنات{[67297]} إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ حقيقة ، وفي ألواح صفحات الكائنات حالاً ومجازاً ، فأظهر جميع العلوم ، ثم ختم على فيه فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، والذي يكتب فيه{[67298]} الخلق ما نولهم الله من تلك المعارف والفهوم ، وذلك هو قوام أمور الدنيا ، والإشارة به إلى القضاء الذي هو من نتائج " ن " لأنه من مصنوعات{[67299]} الله الظاهرة التي اقتضت{[67300]} حكمته سبحانه إيجادها ووجهه إلى تفصيل ما جرى به الحكم .
ولما كان الحاصل بالقلم من بث الأخبار ونشر العلوم على تشعبها والأسرار ما يفوق الحصر ، فصار{[67301]} كأنه العالم المطيق واللسن المنطيق ، وكان المراد به الجنس أسند إليه كما يسند إلى{[67302]} العقلاء فقال : { وما يسطرون * } أي قلم القدرة ، وجمعه وأجراه مجرى أولي العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم ، أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون{[67303]} الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، إما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم حتى أصحاب الصحيفة الظالمة التي تقاسموا فيها على أن يقاطعوا بني هاشم ومن{[67304]} لافهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعون به ما شاؤوا ، وكيف ما كان فهو إشارة إلى المقدر {[67305]}لأنه إنما{[67306]} يسطر ما قضى به وحكم .