فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة نون

وتسمى سورة القلم اثنتان وخمسون آية ، وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وعن ابن عباس وقتادة أن من أولها إلى قوله : { أكبر لو كانوا يعلمون } مدني ، ومن بعد ذلك إلى قوله : { فهم يكتبون } مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله : { فهم يكتبون } مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله : { من الصالحين } مدني ، وباقيها مكي ، كذا قال الماوردي ، وعن ابن عباس قال كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما شاء ، وكان أول ما نزل من القرآن اقرأ باسم ربك ثم نون ثم المزمل ثم المدثر . وعنه نزلت نون بمكة وعن عائشة مثله .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ ن والقلم وما يسطرون ( 1 ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( 2 ) وإن لك لأجرا غير ممنون ( 3 ) وإنك لعلى خلق عظيم ( 4 ) فستبصر ويبصرون ( 5 ) بأييّكم المفتون ( 6 ) }

{ ن } قرئ بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو ، وقرئ بالإظهار وبالفتح على إضمار فعل وبكسرها على إضمار القسم ، أو لأجل التقاء الساكنين ، وبضمها على البناء ؛ عن ابن عباس أنه قال نون : الدواة ، أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد ، وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " النون السمكة ( {[1608]} ) التي عليها قرار الأرضين " ، وقال مجاهد والسدي ومقاتل : هو الحوت الذي يحمل الأرض ، وبه قال مرة الهمداني ، وعطاء الخراساني والكلبي .

وقيل إن نون آخر حرف من حروف الرحمن ؛ وقال ابن زيد : هو قسم أقسم الله به ؛ وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة وقال عطاء وأبو العالية : هي النون من نصر وناصر ؛ وقال محمد بن كعب : أقسم الله بنصره المؤمنين ، وقيل اسم للسورة وقيل اسم للقرآن ، وقيل هو حرف من حروف الهجاء كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك ، وقد اختاره المحلي حيث قال أحد الحروف الهجاء ؛ وأراد بذلك الرد على من قال أنه مقتطع من اسمه تعالى الرحمن أو النصير أو الناصر أو النور .

وقال النسفي : الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم ؛ وأما قول الحسن أنه الدواة وقول ابن عباس أنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت ، فمشكل سواء كان جنس أو اسم علم ، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم انتهى . وقد عرفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أول سورة البقرة .

{ والقلم } الواو واو القسم أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان وهو واقع على كل قلم يكتب به في الأرض والسماء ، وقال جماعة من المفسرين ومنهم المحلي المراد به القلم الذي كتب به الكائنات في اللوح المحفوظ ، أقسم الله به تعظيما له ، قال قتادة القلم من نعمة الله على عباده . وعن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ، فجرى بما هو كائن إلى الأبد " ( {[1609]} ) أخرجه الترمذي وصححه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه .

وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا نحوه ، وعن ابن عباس قال : " إن الله خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال : اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " أخرجه ابن جرير وابن المنذر ، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا نحوه ( {[1610]} ) .

وعن ابن عباس أن أول شيء خلقه الله القلم فقال الله له اكتب فقال : يا رب ما أكتب ؟ فقال : اكتب القدر ، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم طوى الكتاب ورفع القلم . وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء ففتقت منه السموات ، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه ، والأرض على ظهر النون فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت الجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ثم قرأ { نون والقلم وما يسطرون } أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو الشيخ وغيرهم .

{ وما يسطرون } ما موصولة والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره ، لأن ذكر آلة الكتابة تدل على الكاتب ، والمعنى والذي يكتبون كل ما يكتب أو الحفظة الكاتبون على بني آدم ، قال ابن عباس يسطرون يكتبون ، ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وسطرهم ، وقيل الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة وإجرائها مجرى العقلاء ، وعن ابن عباس أيضا قال : { وما يسطرون } ما يعلمون .


[1608]:هذا من المروي بغير تحقيق. رواه الطبري 29/14 وأبو ظبيان قابوس وفيه لين كما قال ابن حجر في التقريب.
[1609]:زاد المسير، 8/327.
[1610]:رواه ابن عساكر 17/247/1 عن الحسن بن يحي الخشني عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه بأطول منه، وتمامه:" ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون-أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله:{ن والقلم وما يسطرون} ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصنّك ممن أبغضت". والحسن بن يحيي صدوق كثير الغلط كما قال الحافظ في "التقريب"، والحديث رواه أحمد في "المسند" 5/317 من طرق عن الوليد بن عبادة عن أبيه عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وليس فيه ذكر النون في أوله ولا ذكر العقل في آخره، ورواه الترمذي 2/162 بنحو رواية أحمد وقال: حديث حسن صحيح غريب، ورواه أيضا أبو داود في " سننه" رقم (4700) والطبري 29/17 وهو حديث صحيح بهذا القدر.