76- وجعل الله مثلا آخر هو رجلان : أحدهما أخرس أصم لا يُفْهم غيره : كَلٌّ على من يلي أمره ، إذا وجهه سيده إلى جهة ما ، لا يرجع بفائدة . هل يستوي هذا الرجل مع رجل فصيح قوي السمع ، يأمر بالحق والعدل ، وهو في نفسه على طريق قويم لا عوج فيه ؟ إن ذلك الأخرس الذي لا يسمع ولا يتكلم ولا يَفْهم ولا يُفهم ، هو مثل الأصنام التي عبدوها من دون الله ، فإنها لا تسمع ولا تنطق ولا تنفع ، فلا يمكن أن تستوي مع السميع العليم الداعي إلى الخير والحق ، وإلى الطريق المستقيم .
ثم ضرب مثلاً للأصنام فقال : { وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه } ، كل : ثقل ووبال ، { على مولاه } ، ابن عمه ، وأهل ولايته ، { أينما يوجهه } ، يرسله ، { لا يأت بخير } ؛ لأنه لا يفهم ما يقال به ، ولا يفهم عنه ، هذا مثل الأصنام ، لا تسمع ، ولا تنطق ، ولا تعقل ، { وهو كل على مولاه } ، عابده ، يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويخدمه . { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } ، يعني : الله تعالى قادر ، متكلم ، يأمر بالتوحيد ، { وهو على صراط مستقيم } ، قال الكلبي : يعني : يدلكم على صراط مستقيم . وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم . وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطية عن ابن عباس . وقال عطاء : الأبكم : أبي بن خلف ، ومن يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون . وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير ، يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : نزلت في عثمان بن عفان ومولاه ، كان عثمان ينفق عليه ، وكان مولاه يكره الإسلام .
والمثل الثاني : مثل { رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } لا يسمع ولا ينطق ، و { لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ، لا قليل ولا كثير ، { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ } ، أي : يخدمه مولاه ، ولا يستطيع هو أن يخدم نفسه ، فهو ناقص من كل وجه ، فهل يستوي هذا ومن كان يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، فأقواله عدل ، وأفعاله مستقيمة ، فكما أنهما لا يستويان ، فلا يستوي من عبد من دون الله وهو لا يقدر على شيء من مصالحه ، فلولا قيام الله بها لم يستطع شيئا منها ، ولا يكون كفوا وندا لمن لا يقول إلا الحق ، ولا يفعل إلا ما يحمد عليه .
هذا مثل لله عز وجل والأصنام ، فهي : كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء ، وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق ، و «الكَلّ » ، الثقل والمؤنة ، وكل محمول فهو كَلّ ، وسمي اليتيم كلاً ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أكول المال الكَلِّ قبل شبابه . . . إذا كان عظم الكَلِّ غير شديد{[7382]}
كما الأصنام ؛ تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة ، هذا قول قتادة ، وقال ابن عباس : هو مثل للكافر ، وقرأ ابن مسعود : «يوجه » {[7383]} ، وقرأ علقمة : «يوجِّهُ » ، وقرأ الجمهور : «يوجهه » ، وهي خط المصحف ، وقرأ يحيى بن وثاب : «يُوجَّه »{[7384]} ، وقرأ ابن مسعود أيضاً : «توجهه » ، على الخطاب ، وضعف أبو حاتم قراءة علقمة ؛ لأنه لازم{[7385]} ، والذي : { يأمر بالعدل } ، هو : الله تعالى ، وقال ابن عباس : هو : المؤمن . و«الصراط » ، الطريق .
هذا تمثيل ثانٍ للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشبّه . فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم ، وهو العجز عن الإدراك ، وعن العمل ، وتعذّر الفائدة منه في سائر أحواله ؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنّطق في إدراكه الخيرَ وهديه إليه وإتقانِ عمله وعمل من يهديه ، ضربه الله مثلاً لكماله وإرشاده الناس إلى الحقّ ، ومثلاً للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضرّ .
وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء ، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التّسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز ، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفنّناً في المخالفة بين أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً } [ سورة النحل : 75 ] . ومثْل هذا التفنّن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ .
والأبكم : الموصوف بالبَكم بفتح الباء والكاف وهو الخَرَس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يُفهم . وزيد في وصفه أنه زَمِنٌ لا يقدر على شيء . وتقدّم عند قوله تعالى : { صم بكم عمي } في أول سورة البقرة ( 18 ) .
والكَلّ بفتح الكاف العالَة على الناس . وفي الحديث مَن تَرَك كَلاّ فعلينا ، أي من ترك عِيالاً فنحن نكفلهم . وأصل الكلّ : الثّقَل . ونشأت عنه معاننٍ مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة .
والمولى : الذي يلي أمر غيره . والمعنى : هو عالة على كافله لا يدبّر أمر نفسه . وتقدّم عند قوله تعالى : { بل الله مولاكم } في سورة آل عمران ( 15 ) ، وقوله تعالى : { وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ } في سورة يونس ( 30 ) .
ثم زاد وصفه بقلّة الجدوى بقوله تعالى : { أينما يوجّهه } ، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأتِ بخير ، أي لا يهتدي إلى ما وجّه إليه ، لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه .
ودلّت صلة { يأمر بالعدل } على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصّر فيه .
والعدل : الحقّ والصواب الموافق للواقع .
والصراط المستقيم : المحجّة التي لا التواء فيها . وأطلق هنا على العمل الصالح ، لأن العمل يشبّه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحاً كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشاداً ، بل هو محتاج إلى من يكفله .
فالأول مثَل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده .