قوله تعالى : { يوم تجد كل نفس } نصب " يوم " بنزع حرف الصفة ، أي في يوم ، وقيل بإضمار فعل أي : اذكروا واتقوا يوم تجد كل نفس .
قوله تعالى : { ما عملت من خير محضرا } لم يبخس منه شيء ، كما قال الله تعالى ( ووجدوا ما عملوا حاضراً ) .
قوله تعالى : { وما عملت من سوء } جعله بعضهم " خبراً " في موضع النصب ، أي : تجد محضراً ما عملت من الخير والشر ، فتسر بما عملت من الخير ، وجعل بعضهم خبراً مستأنفا ، دليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً .
قوله تعالى : { تود لو أن بينها } أي بين النفس .
قوله تعالى : { وبينه } يعني وبين السوء .
قوله تعالى : { أمداً بعيداً } . قال السدي مكاناً بعيداً . وقال مقاتل : كما بين المشرق والمغرب ، والأمد الأجل والغاية التي ينتهي إليها . وقال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقي عمله أبداً . وقيل : يود أنه لم يعمله .
وفي ضمن أخبار الله عن علمه وقدرته الإخبار بما هو لازم ذلك من المجازاة على الأعمال ، ومحل ذلك يوم القيامة ، فهو الذي توفى به النفوس بأعمالها فلهذا قال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا } أي : كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره } والخير : اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها ، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا } أي : مسافة بعيدة ، لعظم أسفها وشدة حزنها ، فليحذر العبد من أعمال السوء التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن ، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا } { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } فوالله لترك كل شهوة ولذة وإن عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح ، ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر ، فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا ، ويحجم عن ما يضره عاجلا وآجلا ، ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا ، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح ، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب ، فقال { ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد } فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام ، حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه .
يعني : يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر{[4943]} كما قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه ، وما رأى من قبيح ساءه وغاظه ، وود لو أنه تبرأ منه ، وأن يكون بينهما أمد بعيد ، كما يقول لشيطانه الذي كان مقترنًا به في الدنيا ، وهو الذي جرَّأه على فعل السوء : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] .
ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي : يخوفكم عقابه ، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه : { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } قال الحسن البصري : من رأفته بهم حذرهم نفسه . وقال غيره : أي : رحيم بخلقه ، يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم ، وأن يتبعوا رسوله الكريم .
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ويحذّركم الله نفسه ، في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا موفرا ، وما عملت من سوء { تودّ لو أنّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا } : يعني : غاية بعيدة ، فإن مصيركم أيها القوم يومئذٍ إليه ، فاحذوره على أنفسكم من ذنوبكم . وكان قتادة يقول في معنى قوله : { مُحْضَرا } ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرا } يقول موفّرا .
وقد زعم أهل العربية أن معنى ذلك : واذكر يوم تجد ، وقال : إن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر ، كأنه قيل لهم : اذكروا كذا وكذا ، لأنه في القرآن في غير موضع ، واتقوا يوم كذا وحين كذا . وأما «ما » التي مع عملت فبمعنى الذي ، ولا يجوز أن تكون جزاء لوقوع «تجد » عليه .
وأما قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ } فإنه معطوف على قوله : «ما » الأولى ، و«عملت » صلة بمعنى الرفع ، لمّا قيل «تود » . فتأويل الكلام : يوم تجد كل نفس الذي عملت من خير محضرا ، والذي عملت من سوء ، تودّ لو أن بينها وبينه أمدا . والأمد : الغاية التي ينتهي إليها ، ومنه قول الطرماح :
كلّ حَيّ مُسْتَكْمِلٌ عِدّةَ العُمْ *** رِ ومُودٍ إذَا انْقَضَى أمَدُهْ
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أمَدا بَعِيدا } مكانا بعيدا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { أمَدا بَعِيدا } قال : أجلاً .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَدا بَعِيدا } قال : يسرّ أحدهم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذّها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ويُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ } .
يقول جلّ ثناؤه : ويحذّركم الله نفسه أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم ، فتوافونه ، يوم تجد كل نفسه ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، وهو عليكم ساخط ، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به . ثم أخبر عزّ وجلّ أنه رءوف بعباده رحيم بهم ، ومن رأفته بهم تحذيره إياهم نفسه ، وتخويفهم عقوبته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن الحسن في قوله : { وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ } قال : من رأفته بهم أن حذّرهم نفسه .