قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } . قرأ أبو جعفر للملائكة اسجدوا بضم التاء على جوار ألف اسجدوا وكذلك قرأ ( قل رب احكم بالحق ) بضم الباء ، وضعفه النحاة جداً ونسبوه إلى الغلط فيه واختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة فقال بعضهم : مع الذين كانوا سكان الأرض . والأصح : أنه مع جميع الملائكة لقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) وقوله : اسجدوا فيه قولان : الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة ، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره ، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية ، لا سجود عبادة ، كسجود إخوة يوسف له في قوله عز وجل ( وخروا له سجداً ) ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض ، إنما كان انحناء ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام . وقيل : معنى قوله اسجدوا لآدم أي إلى آدم فكان آدم قبلة ، والسجود لله تعالى ، كما جعلت الكعبة قبلةً للصلاة والصلاة لله عز وجل .
قوله تعالى : { فسجدوا } . يعني : الملائكة .
قوله تعالى : { إلا إبليس } . وكان اسمه عزازيل بالسريانية ، وبالعربية الحرث ، فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل : إبليس ، لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي يئس . واختلفوا فيه فقال ابن عباس وأكثر المفسرين : كان إبليس من الملائكة ، وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة ، والأول أصح . لأن خطاب السجود كان مع الملائكة ، وقوله ( كان من الجن ) أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة . وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة ، وقال : قوم من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي أهل الجنة ، وقيل : بأن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جناً لاستتارهم عن الأعين ، وإبليس كان منهم . والدليل عليه قوله تعالى ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ) وهو قولهم : الملائكة بنات الله ، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية .
قوله تعالى : { أبى } . أي امتنع فلم يسجد .
قوله تعالى : { واستكبر } . أي تكبر عن السجود لآدم .
قوله تعالى : { وكان } . أي : وصار .
قوله تعالى : { من الكافرين } . وقال أكثر المفسرين : وكان في سابق علم الله من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، أنا ابن الحاكم أبو الفضل محمد ابن الحسين الحدادي ، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ، أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، أنا جرير ووكيع وأبو معاوية عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار " .
ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم ، إكراما له وتعظيما ، وعبودية لله تعالى ، فامتثلوا أمر الله ، وبادروا كلهم بالسجود ، { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود ، واستكبر عن أمر الله وعلى آدم ، قال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وهذا الإباء منه والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه ، فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره .
وفي هذه الآيات من العبر والآيات ، إثبات الكلام لله تعالى ، وأنه لم يزل متكلما ، يقول ما شاء ، ويتكلم بما شاء ، وأنه عليم حكيم ، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم ، واتهام عقله ، والإقرار لله بالحكمة ، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة ، وإحسانه بهم ، بتعليمهم ما جهلوا ، وتنبيههم على ما لم يعلموه .
منها : أن الله تعرف لملائكته ، بعلمه وحكمته ، ومنها : أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم ، وأنه أفضل صفة تكون في العبد ، ومنها : أن الله أمرهم بالسجود لآدم ، إكراما له ، لما بان فضل علمه ، ومنها : أن الامتحان للغير ، إذا عجزوا عما امتحنوا به ، ثم عرفه صاحب الفضيلة ، فهو أكمل مما عرفه ابتداء ، ومنها : الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن ، وبيان فضل آدم ، وأفضال الله عليه ، وعداوة إبليس له ، إلى غير ذلك من العبر .
( وإذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . فسجدوا ) . .
إنه التكريم في أعلى صوره ، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة . لقد وهب سر المعرفة ، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق . . إن ازدواج طبيعته ، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه ، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة . . إن هذا كله بعض أسرار تكريمه .
ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل .
( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ) . .
وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة : عصيان الجليل سبحانه ! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله . والعزة بالإثم . والاستغلاق عن الفهم .
ويوحي السياق أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة ، إنما كان معهم . فلو كان منهم ما عصى . وصفتهم الأولى أنهم ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) . . والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم ، فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء ، كما تقول : جاء بنو فلان إلا أحمد . وليس منهم إنما هو عشيرهم وإبليس من الجن بنص القرآن ، والله خلق الجان من مارج من نار . وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 34 )
و { قلنا } كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع ، وقوله للملائكة عموم فيهم .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع( {[458]} ) : «للملائكةُ اسجدوا » برفع تاء للملائكة إتباعاً لضمة ثالث المستقبل .
وقال الزجاج : «أبو جعفر من رؤساء القرأة ولكنه غلط في هذا » .
قال أبو الفتح : لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفاً ساكناً صحيحاً ، نحو قوله تعالى : { وقالت اخرج عليهن }( {[459]} ) [ يوسف : 31 ] والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل ، ومنه قول الشاعر [ زيد الخيل ] : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ترى الأُكْمَ فيهِ سُجَّداً للحوافرِ( {[460]} )
وغايته وضع الوجه بالأرض ، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع ، ذكره النقاش وغيره ، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود .
قوله تعالى : { فقعوا له ساجدين } [ الحجر : 29 ] لا دليل فيه( {[461]} ) لأن الجاثي على ركبتيه واقع .
واختلف في حال السجود لآدم ، فقال ابن عباس : «تعبدهم الله بالسجود لآدم ، والعبادة في ذلك لله » .
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس : «إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام ، لا سجود عبادة » .
وقال الشعبي : «إنما كان آدم كالقبلة( {[462]} ) ، ومعنى لآدم إلى آدم »( {[463]} ) .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام .
وحكى النقاش عن مقاتل : «أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه » .
قال : «والقرآن يرد على هذا القول » .
وقال قوم : سجود الملائكة كان مرتين ، والإجماع يرد هذا .
وقوله تعالى : { إلا إبليس } نصب على الاستثناء المتصل ، لأنه من الملائكة على قول الجمهور ، وهو ظاهر الآية ، وكان خازناً وملكاً على سماء الدنيا والأرض ، والأرض ، واسمه عزازيل ، قاله ابن عباس .
وقال ابن زيد والحسن : «هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ، ولم يكن قط ملكاً » .
وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضاً ، قال : «واسمه الحارث »( {[464]} ) .
وقال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً ، وتعبد وخوطب معها( {[465]} ) ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود : والاستثناء على هذه الأقوال منقطع ، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة : «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون »( {[466]} ) .
ورجح الطبري قول من قال : «إن إبليس كان من الملائكة » . وقال : «ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة » .
وقوله عز وجل : { كان من الجن ففسق عن أمر ربه }( {[467]} ) [ الكهف : 50 ] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا ، أو على أن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها ، قال تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً }( {[468]} ) [ الصافات : 158 ] .
وقال الأعشى( {[469]} ) في ذكر سليمان عليه السلام : [ الطويل ]
وسخّر من جن الملائك تسعة . . . قياماً لديه يعملون بلا أجْرِ
أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ ، لما كان خازناً عليها ، و { إبليس } لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرف( {[470]} ) .
قال الزجاج : «ووزنه فِعْليل » .
وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم : هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير ، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه ، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله ، وأيوب من آب يؤوب ، مثل قيوم من قام يقوم ، ولما لم تصرف هذه -ولها وجه من الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه ، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج : [ الرجز ] .
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا . . . قال نعمْ أعرفه وأبلسا( {[471]} )
أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر : [ الرجز ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وفي الوجوه صفرة وإبلاس( {[472]} )
ومنه قوله تعالى : { فإذا هم مبلسون }( {[473]} ) [ الأنعام : 44 ] أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون- و { أبى } معناه امتنع من فعل ما أمر به ، و { استكبر } دخل في الكبرياء ، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه ، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده . ( {[474]} )
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح( {[475]} ) ، حسد إبليس آدم وتكبر ، وشح آدم في آكله من شجرة قد نهي عن قربها .
حكى المهدوي عن فرقة أن معنى { وكان من الكافرين } : وصار( {[476]} ) من الكافرين .
وقال ابن فورك : «وهذا خطأ ترده الأصول » .
وقالت فرقة : «قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم ، لما فعل في الكفر فعلهم » .
وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول : «وكان من الكافرين معناه : من العاصين » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت .
وروي أن الله تعالى خلق خلقاً وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار ، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم ، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والإسناد في مثل هذا غير وثيق .
وقال جمهور المتأولين : معنى { وكان من الكافرين } أي في علم الله تعالى أنه سيكفر ، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة . ( {[477]} )
وذهب الطبري : إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم ، واختلف هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره ، فمن قال إنه كفر جهلاً : قال : «إنه سلب العلم عند كفره » . ومن قال كفر عناداً قال : «كفر ومعه علمه » ، قال : والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء( {[478]} ) . ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن .