19- حُرَصاء عليكم في الظاهر حيث لا خوف ، فإذا جاء الخوف من قبل العدو أو من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم حائرة ، كحال المغشي عليه من سكرات الموت ، فإذا ذهب الخوف بالغوا في ذمكم وشتمكم بألسنة قاطعة ، بخلاء بكل خير . أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم وإن أعلنوا إسلامهم فأبطل الله أعمالهم بإضمارهم الكفر ، وكان ذلك الإحباط أمرا هينا على الله{[178]} .
قوله عز وجل : { أشحة عليكم } بخلاء بالنفقة في سبيل الله ، وقال قتادة : بخلاء عند الغنيمة ، وصفهم الله بالبخل والجبن ، فقال : { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } في الرؤوس من الخوف والجبن ، { كالذي يغشى عليه من الموت } أي : كدوران الذي يغشى عليه من الموت ، وذلك أن من قرب من الموت وغشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره ، فلا يطرف ، { فإذا ذهب الخوف سلقوكم } آذوكم ورموكم في حال الأمن ، { بألسنة حداد } ذرية ، جمع حديد . يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان : مسلق ومصلق وسلاق وصلاق . قال ابن عباس : سلقوكم أي : عضهوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة . وقال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة ، يقولون : أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال ، فلستم أحق بالغنيمة منا ، فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم ، { أشحةً على الخير } أي : عند الغنيمة يشاحون المؤمنين ، { أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم } قال مقاتل : أبطل الله جهادهم . { وكان ذلك على الله يسيرا* }
{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال ، وبأموالهم عند النفقة فيه ، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم . { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ الْمَوْتِ } من شدة الجبن ، الذي خلع قلوبهم ، والقلق الذي أذهلهم ، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون ، من القتال .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة ، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة } أي : خاطبوكم ، وتكلموا معكم ، بكلام حديد ، ودعاوى غير صحيحة .
وحين تسمعهم ، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام ، { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } الذي يراد منهم ، وهذا شر ما في الإنسان ، أن يكون شحيحًا بما أمر به ، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه ، شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه ، أو يدعو إلى سبيل اللّه ، شحيحًا بجاهه ، شحيحًا بعلمه ، ونصيحته ورأيه .
{ أُولَئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُوا } بسبب عدم إيمانهم ، أحبط الله أعمالهم ، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
وأما المؤمنون ، فقد وقاهم اللّه ، شح أنفسهم ، ووفقهم لبذل ما أمروا به ، من بذل لأبدانهم في القتال في سبيله ، وإعلاء كلمته ، وأموالهم ، للنفقة في طرق الخير ، وجاههم وعلمهم .
ثم تأخذ الريشة المعجزة في رسم سمات هذا النموذج :
( أشحة عليكم )ففي نفوسهم كزازة على المسلمين . كزازة بالجهد وكزازة بالمال ، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء .
( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) . .
وهي صورة شاخصة ، واضحة الملامح ، متحركة الجوارح ، وهي في الوقت ذاته مضحكة ، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان ، الذين تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار !
وأشد إثارة للسخرية صورتهم بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن :
( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ) . .
فخرجوا من الجحور ، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش ، وانتفخت أوداجهم بالعظمة ، ونفشوا بعد الانزواء ، وادعوا في غير حياء ، ما شاء لهم الادعاء ، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال ، والشجاعة والاستبسال . .
ثم هم : ( أشحة على الخير ) . .
فلا يبذلون للخير شيئا من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم ؛ مع كل ذلك الادعاد العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان !
وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل . فهو موجود دائما . وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء . وهو جبان صامت منزو حيثما كان هناك شدة وخوف . وهو شحيح بخيل على الخير وأهل الخير ، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان !
( أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ) . .
فهذه هي العلة الأولى . العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان ، ولم تهتد بنوره ، ولم تسلك منهجه . ( فأحبط الله أعمالهم ) . . ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك .
{ أشحة عليكم } بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر أو الغنيمة ، جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل { يأتون } أو { المعوقين } أو على الذم . { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } في أحداقهم . { كالذي يغشى عليه } كنظر المغشي عليه أو كدوران عينيه ، أو مشبهين به أو مشبهة بعينه . { من الموت } من معالجة سكرات الموت خوفا ولواذا بك . { فإذا ذهب الخوف } وحيزت الغنائم . { سلقوكم } ضربوكم . { بألسنة حداد } ذرية يطلبون الغنيمة ، والسلق البسط بقهر باليد أو اللسان . { أشحة على الخير } نصب على الحال أو الذم ، ويؤيده قراءة الرفع وليس بتكرير لأن كلا منهما مقيد من وجه . { أولئك لم يؤمنوا } إخلاصا . { فأحبط الله أعمالهم } فأظهر بطلانها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم . { وكان ذلك } الإحباط . { على الله يسيرا } هينا لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه عنه .