قوله تعالى : { لاهيةً } ساهيةً غافلة ، { قلوبهم } معرضةً عن ذكر الله ، وقوله : لاهية نعت تقدم الاسم ، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب ، وإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان : فصل ووصل ، في الفصل النصب كقوله تعالى : { خشعاً أبصارهم } ودانيةً عليهم ظلالها { لاهية قلوبهم } وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله ، ( ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) { وأسروا النجوى الذين ظلموا } يعني : أشركوا قوله وأسروا فعل تقدم الجمع وكان حقه وأسر . قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير ، أراد الذين ظلموا أسروا النجوى . وقيل : محل الذين رفع على الابتداء معناه واسروا النجوى ، ثم قال وهم الذين ظلموا ، وقيل رفع على البدل من الضمير في أسروا . قال المبرد : هذا كقولك إن الذين في الدار انطلقوا بنو عبد الله ، على البدل مما في انطلقوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به فقال : { هل هذا إلا بشر مثلكم } أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة . { أفتأتون السحر } يعني تحضرون السحر وتقبلونه { وأنتم تبصرون } تعلمون أنه سحر .
ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون على وجه العناد ، ومقابلة الحق بالباطل ، وأنهم تناجوا ، وتواطأوا فيما بينهم ، أن يقولوا في الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنه بشر مثلكم ، فما الذي فضله عليكم ، وخصه من بينكم ، فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه ، لكان قوله من جنس قوله ، ولكنه يريد أن يتفضل عليكم ، ويرأس فيكم ، فلا تطيعوه ، ولا تصدقوه ، وأنه ساحر ، وما جاء به من القرآن سحر ، فانفروا عنه ، ونفروا الناس ، وقولوا : { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ }
( لاهية قلوبهم ) . . والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكير .
إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد ، فتلهو في أخطر المواقف ، وتهزل في مواطن الجد ؛ وتستهتر في مواقف القداسة . فالذكر الذي يأتيهم يأتيهم ( من ربهم )فيستقبلونه لا عبين ، بلا وقار ولا تقديس . والنفس التي تفرع من الجد والاحتفال والقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال ؛ فلا تصلح للنهوض بعبء ، ولا الاضطلاع بواجب ، ولا القيام بتكليف . وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة !
إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة . والاستهتار غير الاحتمال . فالاحتمال قوة جادة شاعرة . والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء .
وهؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورا للحياة ، ومنهاجا للعمل ، وقانونا للتعامل . . باللعب . ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة . وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان . فحيثما خلت الروح من الجد والاحتفال والقداسة صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن . والتي تحيل الحياة كلها إلى هزل فارغ ، لا هدف له ولا قوام !
ذلك بينما كان المؤمنون يتلقون هذه السورة بالاهتمام الذي يذهل القلوب عن الدنيا وما فيها :
جاء في ترجمة الأمدي لعامر بن ربيعة أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه . . ثم جاءه هذا الرجل وقد أصاب أرضا فقال له : إني استقطعت من رسول الله [ ص ] واديا في العرب . وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك . فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك . نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) . .
وهذا هو فرق ما بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة ، والقلوب الميتة المغلقة الخامدة . التي تكفن ميتتها باللهو ؛ وتواري خمودها بالاستهتار ؛ ولا تتأثر بالذكر لأنها خاوية من مقومات الحياة .
( وأسروا النجوى الذين ظلموا ) . . وقد كانوا يتناجون فيما بينهم ويتآمرون خفية ، يقولون عن رسول الله [ ص ] : ( هل هذا إلا بشر مثلكم ? أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ? ) .
فهم على موت قلوبهم وفراغها من الحياة لم يكونوا يملكون أنفسهم من أن تتزلزل بهذا القرآن ؛ فكانوا يلجأون في مقاومة تأثيره الطاغي إلى التعلات ، يقولون : إن محمدا بشر . فكيف تؤمنون لبشر مثلكم ? وإن ما جاء به السحر . فكيف تجيئون للسحر وتنقادون له وفيكم عيون وأنتم تبصرون ? !
وقوله : { وأسروا النجوى الذين ظلموا } أي قائلين فيما بينهم خفية { هل هذا إلا بشر مثلكم } يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم ، فكيف اختص بالوحي دونهم ، ولهذا قال : { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر ، فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب
قوله تعالى : { لاهية } حال بعد الحال{[8197]} ، واختلف النحاة في إعراب قوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } فذهب سيبويه رحمه الله إلى أن الضمير في { أسروا } فاعل وأن { الذين } بدل منه وقال رحمه الله لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن ، وقال أبو عبيدة وغيره الواو والألف علامة أن الفاعل مجموع كالتاء في قولك قامت هند و { الذين } فاعل ب { أسروا } وهذا على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقالت فرقة الضمير فاعل و { الذين } مرتفع بفعل مقدر تقديره أسرها الذين أو قال الذين ع والوقوف على { النجوى } في هذا القول وفي الأول أحسن ولا يحسن في الثاني ، وقالت فرقة { الذين } مرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم الذين ظلموا ، والوقف مع هذا حسن ، وقالت فرقة { الذين } في موضع نصب بفعل تقديره أعني الذين ، وقالت فرقة { الذين } في موضع خفض بدل من { الناس } [ الأنبياء : 1 ] ع وهذه أقوال ضعيفة ومعنى { أسروا النجوى } تكلموا بينهم في السر والمناجاة بعضهم لبعض ، وقال أبو عبيدة { أسروا } أظهروا وهو من الأضداد ، ثم بين تعالى الأمر الذي يتناجون به وهو قول بعضهم لبعض { هل هذا إلا بشر مثلكم } ، ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة { أفتأتون السحر } أي ما يقول شبهوه بالسحر ، المعنى أفتتبعون السحر { وأنتم تبصرون } أي تدركون أنه سحر وتعلمون ذلك ، كأنهم قالوا تضلون على بينة ومعرفة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لاهية قلوبهم} يعني: غافلة قلوبهم عنه. {وأسروا النجوى} {الذين ظلموا}... قالوا سرا فيما بينهم: {هل هذا} يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم {إلا بشر مثلكم} لا يفضلكم بشيء فتتبعونه. {أفتأتون السحر} يعنى القرآن {وأنتم تبصرون} أنه سحر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"لاهيَةً قُلُوبُهُمْ" غافلة، يقول: ما يستمع هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم هذا القرآن إلا وهم يلعبون غافلة عنه قلوبهم، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه الله من الحجج عليهم...
وقوله: "وأَسَرّوا النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُوا "يقول: وأسرّ هؤلاء الناس -الذين اقتربت الساعة منهم وهم في غفلة معرضون، لاهية قلوبهم – "النجوى" بينهم، يقول: وأظهروا المناجاة بينهم فقالوا: هل هذا الذي يزعم أنه رسول من الله أرسله إليكم "إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ"؟ يقولون: هل هو إلا إنسان مثلكم في صوركم وخَلْقكم؟ يعنون بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال الذين ظلموا فوصفهم بالظلم بفعلهم وقيلهم الذي أخبر به عنهم في هذه الآيات إنهم يفعلون ويقولون من الإعراض عن ذكر الله والتكذيب برسوله...
وقوله: "أفَتَأتُونَ السّحْرَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ" يقول: وأظهروا هذا القول بينهم، وهي النجوى التي أسرّوها بينهم، فقال بعضهم لبعض: أتقبلون السحر وتصدّقون به وأنتم تعلمون أنه سحر؟ يعنون بذلك القرآن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... اللاهية: من لها عنه إذا ذهل وغفل، يعني أنهم وإن فطنوا فهم في قلة جدوى فطنتهم كأنهم لم يفطنوا أصلاً، وثبتوا على رأس غفلتهم، وذهولهم عن التأمّل والتبصر بقلوبهم [(وأسروا النجوى)]
فإن قلت: النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية، فما معنى قوله: {وَأَسَرُّواْ}؟ قلت: معناه وبالغوا في إخفائها. أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون، أبدل {الذين ظَلَمُواْ} من واو وأسرّوا، إشعاراً بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو جاء على لغة من قال «أكلوني البراغيث» أو هو منصوب المحل على الذم. أو هو مبتدأ خبره {وَأَسَرُّواْ النجوى} قدّم عليه. والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى، أي: وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمراً. اعتقدوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ملكاً، وأن كل من ادّعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر.
فإن قلت: لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه؟ قلت: كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعمل المنصوبة في التثبيط عنه وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في شوراهم، ويتجاهدوا في طيّ سرّهم عنهم ما أمكن واستطيع...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى أفتتبعون السحر {وأنتم تبصرون} أي تدركون أنه سحر وتعلمون ذلك، كأنهم قالوا تضلون على بينة ومعرفة.
وإنما ذكر اللعب مقدما على اللهو كما في قوله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} تنبيها على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه السخرية والاستهزاء معلل باللهو الذي معناه الذهول والغفلة، فإنهم أقدموا على اللعب للهوهم وذهولهم عن الحق... المسألة الثالثة: أنهم طعنوا في نبوته بأمرين: أحدهما: أنه بشر مثلهم. والثاني: أن الذي أتى به سحر، وكلا الطعنين فاسد. أما الأول: فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل لا على الصور إذ لو بعث الملك إليهم لما علم كونه نبيا لصورته، وإنما كان يعلم بالعلم فإذا ظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبيا، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشرا لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب وهو به آنس. وأما الثاني: وهو أن ما أتى به الرسول عليه السلام سحر وأنهم يرون كونه سحرا فجهل أيضا، لأن كل ما أتى به الرسول من القرآن وغيره ظاهر الحال لا تمويه فيه ولا تلبيس فيه. فقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن حالا بعد حال مدة من الزمان وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها لأن الفعل عند توافر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع، فلما لم يأتوا بها دلنا ذلك على أنه في نفسه معجزة وأنهم عرفوا حاله. فكيف يجوز أن يقال: إنه سحر والحال على ما ذكرناه، وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه، إلا أنهم كانوا يموهون على ضعفائهم بمثل هذا القول وإن كانوا فيه مكابرين.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{هل هذا إلاّ بشر مثلكم} استفهام معناه التعجب أي كيف خُص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلاّ ملكاً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لاهية قلوبهم} أي غارقة قلوبهم في اللهو، مشغولة به عما حداها إليه القرآن، ونبهها عليه الفرقان، وحذرها منه البيان...
ولما ذكر ما يظهرونه في حال الاستماع من اللهو واللعب، ذكر ما يخفونه من التشاور في الصد عنه وإعمال الحيلة في التنفير منه والتوثق من بعضهم لبعض في الثبات على المجانبة له فقال عاطفاً على {استمعوا}: {وأسروا} أي الناس المحدث عنهم {النجوى} أي بالغوا في إسرار كلامهم بسبب الذكر...
ولما أخبر بسوء ضمائرهم، أبدل من ضميرهم ما دل على العلة الحاملة لهم على ذلك فقال: {الذين ظلموا} ثم بين ما تناجوا به فقال: {هل} أي فقالوا في تناجيهم هذا، معجبين من ادعائه النبوة مع مماثلته لهم في البشرية: هل {هذا} الذي أتاكم بهذا الذكر {إلا بشر مثلكم} أي في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب والحياة والموت، فكيف يختص عنكم بالرسالة؟ ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له، فحينئذ تسبب عن هذا الإنكار في قولهم: {أفتأتون السحر وأنتم} أي والحال أنكم {تبصرون} بأعينكم أنه بشر مثلكم، وببصائركم أن هذه الخوارق التي يأتي بها يمكن أن تكون سحراً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لاهية قلوبهم).. والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكير. إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد؛ وتستهتر في مواقف القداسة. فالذكر الذي يأتيهم يأتيهم (من ربهم) فيستقبلونه لا عبين، بلا وقار ولا تقديس. والنفس التي [تفرغ] من الجد والاحتفال والقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال؛ فلا تصلح للنهوض بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام بتكليف. وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة! وهؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورا للحياة، ومنهاجا للعمل، وقانونا للتعامل.. باللعب. ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة. وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان. فحيثما خلت الروح من الجد والاحتفال والقداسة صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن. والتي تحيل الحياة كلها إلى هزل فارغ، لا هدف له ولا قوام!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... ووجه إسرارهم بذلك الكلام قصدهم أن لا يطلع المسلمون على ما تآمروا به لئلا يتصدى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم لأنهم علموا أن حجتهم في ذلك واهية يرومون بها أن يضللوا الدهماء، أو أنهم أسروا بذلك لفريق رأوا منهم مخائل التصديق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما تكاثر بمكة الذين أسلموا فخشوا أن يتتابع دخول الناس في الإسلام فاختلَوا بقوم ما زالوا على الشرك وناجَوْهم بذلك ليُدخلوا الشك في قلوبهم.
والنجوى: المحادثة الخفية. والإسرار: هو الكتمان والكلام الخفي جداً. وقد تقدم الجمع بينهما في قوله تعالى {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم} في سورة [براءة: 78]، وتقدم وجه جعل النجوى مفعولاً ل {أسروا} في قوله تعالى {وأسروا النجوى} في [سورة طه: 62]، أي جعلوا نجواهم مقصودة بالكتمان وبالغوا في إخفائها لأن شأن التشاور في المهم كتمانه كيلا يطلع عليه المخالف فيفسده.
والاستفهام في قوله {هل هذا إلا بشر مثلكم} إنكاري يقتضي أنهم خاطبوا من قارب أن يصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أي فكيف تؤمنون بنبوءته وهو أحد منكم.
وكذلك الاستفهام في قوله {أفتأتون بالسحر} إنكاري وأراد بالسحر الكلام الذي يتلوه عليكم.
والمعنى: أنه لما كان بشراً مثلكم فما تصديقكم لنُبُوءته إلا من أثر سحرٍ سحَرَكم به فتأتون السحر بتصديقكم بما يَدعوكم إليه.
وأطلق الإتيان على القبول والمتابعة على طريق المجاز أو الاستعارة، لأن الإتيان لشيء يقتضي الرغبة فيه، ويجوز أن يراد بالإتيان هنا حضور النبي صلى الله عليه وسلم لسماع دعوته فجعلوه إتياناً، لأن غالب حضور المجالس أن يكون بإتيان إليها، وجعلوا كلامه سحراً فنَهوا من ناجَوهم عن الاستماع إليه. وهذا كقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} في سورة [فصلت: 26].
وقوله {وأنتم تبصرون} في موضع الحال، أي تأتون السحر وبصركم سليم، وأرادوا به العلم البديهي، فعبروا عنه بالبصر لأن المبصرات لا يحتاج إدراكها إلى تفكير.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يقول الله تعالى كشفا عما أصاب المشركين من حيرة وتناقض: {وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون}... وهذه الحيرة والتناقض هما شعار أعداء القرآن في كل مكان، إلى الآن وحتى الآن...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ هذه السورة نزلت في مكّة، وفي تلك الأيّام التي كان فيها أعداء الإسلام في غاية القوّة والمنعة، فأي داع يدعوهم لإخفاء كلامهم، بل وحتّى نجواهم؟ (وينبغي الالتفات إلى أنّ القرآن يقول إنّهم كانوا يخفون حتّى مناجاتهم). قد يكون ذلك من أجل أنّ هؤلاء كانوا يتشاورون في المسائل التي تتّصف بالتخطيط والتآمر، حتّى يظهروا أمام عامّة الناس موقفاً واحداً ضدّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). إضافة إلى أنّ هؤلاء كانوا من ناحية القوّة متفوقّين حتماً، إلاّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين كانوا من ناحية المنطق والقوّة ونفوذ الكلام أكثر تفوّقاً، وهذا التفوّق هو الذي دفع هؤلاء إلى أن يتشاوروا في الخفاء لانتخاب الأجوبة المصطنعة في مقابل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...