البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ} (3)

2

واللاهية من قول العرب لهى عنه إذا ذهل وغفل يلهى لهياً ولهياناً ، أي وإن فطنوا لا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقلوبهم .

وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى { لاهية } بالرفع على أنه خبر بعد خبر لقوله { وهم } .

و { النجوى } من التناجي ولا يكون إلا خفية فمعنى { وأسرّوا } بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون .

وقال أبو عبيد : { أسروا } هنا من الأضداد يحتمل أن يكون أخفوا كلامهم ، ويحتمل أن يكون أظهروه ومنه قول الفرزدق :

فلما رأى الحجاج جرد سيفه . . .

أسر الحروري الذي كان أضمرا

وقال التبريزي : لا يستعمل في الغالب إلاّ في الإخفاء ، وإنما { أسروا } الحديث لأنه كان ذلك على طريق التشاور ، وعادة المتشاورين كتمان سرهم عن أعدائهم ، وأسروها ليقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين إن ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه وجوزوا في إعراب { الذين ظلموا } وجوهاً الرفع والنصب والجر ، فالرفع على البدل من ضمير { وأسروا } إشعاراً أنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به قاله المبرد ، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه أو على أنه فاعل ، والواو في { أسروا } علامة للجمع على لغة أكلوني البراغيث قاله أبو عبيدة والأخفش وغيرهما .

قيل وهي لغة شاذة .

قيل : والصحيح أنها لغة حسنة ، وهي من لغة أزدشنوءة وخرج عليه قوله { ثم عموا وصموا كثير منهم }

وقال شاعرهم :

يلومونني في اشتراء *** النخيل أهلي وكلهم ألوم

أو على أن { الذين } مبتدأ { وأسروا النجوى } خبره قاله الكسائي فقدّم عليه ، والمعنى : وهؤلاء { أسروا النجوى } فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم أنه ظلم ، أو على أنه فاعل بفعل القول وحذف أي يقول { الذين ظلموا } والقول كثيراً يضمر واختاره النحاس قال ويدل على صحة هذا أن بعده هل هذا إلا بشر مثلكم .

وقيل التقدير أسرها الذين ظلموا .

وقيل : { الذين } خبر مبتدأ محذوف ، أي هم { الذين } والنصب على الذم قاله الزجاج ، أو على إضمار أعني قاله بعضهم .

والجر على أن يكون نعتاً للناس أو بدلاً في قوله { اقترب للناس } قاله الفراء وهو أبعد الأقوال .

{ هل هذا إلاّ بشر مثلكم } استفهام معناه التعجب أي كيف خص بالنبوة دونكم مع مماثلته لكم في البشرية ، وإنكارهم وتعجبهم من حيث كانوا يرون أن الله لا يرسل إلاّ ملكاً .

و { أفتأتون السحر } استفهام معناه التوبيخ و { السحر } عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن والذكر المتلو عليهم ، أي أفتحضرون { السحر وأنتم تبصرون } أنه سحر وأن من أتى به هو { بشر مثلكم } فكيف تقبلون ما أتى به وهو سحر ، وكانوا يعتقدون أن الرسول من عند الله لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر ، وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقتان بقوله : { وأسروا النجوى } وأنهما محكيتان بقوله للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي ، فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى .

وقال الزمخشري : في محل النصب بدلاً من { النجوى } أي { وأسروا } هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بقالوا مضمراً انتهى .