السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ} (3)

{ لاهية } أي : غافلة معرضة { قلوبهم } عن ذكر الله .

تنبيه قوله تعالى : وهم يلعبون لاهية قلوبهم حالان مترادفتان ، أو متداخلتان ، ولما ذكر تعالى ما يظهرونه في حالة الاستماع من اللهو واللعب ذكر ما يخفونه بقوله تعالى عطفاً على استمعوه : { وأسروا } أي : الناس المحدّث عنهم { النجوى } أي : بالغوا في إسرار كلامهم ، وقوله تعالى : { الذين ظلموا } بدل من واو وأسروا للإيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به أو مبتدأ والجملة المتقدمة خبره ، والمعنى : وهؤلاء أسروا النجوى ، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم ، وقيل : جاء على لغة من قال : أكلوني البراغيث وقيل : منصوب المحل على الذم ، ثم بيّن تعالى ما تناجوا به بقوله تعالى : { هل } أي : فقالوا في تناجيهم هذا ، معجبين من ادعائه النبوّة مع مماثلته لهم في البشرية هل { هذا } الذي أتاكم بهذا الذكر { إلا بشر مثلكم } أي : في خلقه وأخلاقه من الأكل والشرب ، والحياة والممات ، فكيف يختص عنكم بالرسالة ما هذا الذي جاءكم به مما لا تقدرون على مثله إلا سحر لا حقيقة له ، فحينئذٍ تسبب عن هذا الإنكار قولهم : { أفتأتون السحر وأنتم } أي : والحال أنكم { تبصرون } بأعينكم أنه بشر مثلكم ، فكأنهم استدلوا بكونه بشراً على كذبه في ادعاء النبوة و الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً ، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر ، فأنكروا حضوره .

فإن قيل : لم أسروا هذا الحديث وبالغوا في إخفائه أجيب : بأن ذلك كان يشبه التشاور فيما بينهم ، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره ، وعادة المتشاورين في خطب أن لا يشركوا أعداءهم في مشورتهم ، و يجتهدوا في طي سرهم عنهم ما أمكن واستطيع .

ومنه قول الناس : " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " ، قال البقاعي : فيالله العجب من قوم رأوا ما أعجزهم ، فلم يجوزوا أن يكون ذلك عن الرحمن الداعي إلى الفوز بالجنان ، وجزموا أنه من الشيطان الداعي إلى الهوان باصطلاء النيران والعجب أيضاً أنهم أنكروا الاختصاص بالرسالة مع مشاهدتهم بما يخص الله تعالى به بعض الناس عن بعض من الذكاء والفطنة ، وحسن الخلائق والأخلاق والقوة والصحة ، وطول العمر وسعة الرزق ونحو ذلك انتهى ، ولا عجب فإنها عقول أضلها باريها .