إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَاهِيَةٗ قُلُوبُهُمۡۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلۡ هَٰذَآ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡۖ أَفَتَأۡتُونَ ٱلسِّحۡرَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ} (3)

وقوله تعالى : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } إما حالٌ أخرى منه أو من واو يلعبون والمعنى ما يأتيهم ذكرٌ من ربهم محدَثٌ في حال من الأحوال إلا حالَ استماعِهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه ، أو لاعبين به حالَ كون قلوبِهم لاهيةً عنه لتناهي غفلتِهم وفرْطِ إعراضِهم عن النظر في الأمور والتفكرِ في العواقب ، وقرئ لاهيةٌ بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبر { وَأَسَرُّواْ النجوى } كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان جنايةٍ خاصة إثرَ حكايةِ جناياتهم المعتادة ، والنجوى اسمٌ من التناجي ومعنى إسرارِها مع أنها لا تكون إلا سرًّا أنهم بالغوا في إخفائها أو أسروا نفسَ التناجي بحيث لم يشعُر أحدٌ بأنهم متناجون وقوله تعالى : { الذين ظَلَمُواْ } بدلٌ من واو أسروا منبئ عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به ، أو هو مبتدأٌ خبرُه أسروا النجوى قُدّم عليه اهتماماً به ، والمعنى هم أسرّوا النجوى فوُضِع الموصولُ موضعَ الضمير تسجيلاً على فعلهم بكونه ظلماً أو منصوبٌ على الذم وقوله : { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } الخ ، في حيّز النصبِ على أنه مفعولٌ لقول مضمرٍ هو جوابٌ عن سؤال نشأ عما قبله ، كأنه قيل : ماذا قالوا في نجواهم ؟ فقيل : قالوا هل هذا الخ ، أو بدلٌ من أسرّوا أو معطوفٌ عليه أو على أنه بدلٌ من النجوى ، أي أسروا هذا الحديثَ وهل بمعنى النفي والهمزة في قوله تعالى : { أَفَتَأْتُونَ السحر } للإنكار والفار للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } حال من فاعل تأتون مقرِّرة للإنكار ومؤكدةٌ للاستبعاد ، والمعنى ما هذا إلا بشرٌ مثلُكم أي من جنسكم وما أتى به سحرٌ ، أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضُرونه على وجه الإذعان والقَبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغِ أن الرسولَ لا يكون إلا ملَكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر ، وزل عنهم أن إرسالَ البسر إلى عامة البشر هو الذي تقتضيه الحكمةُ التشريعية قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيقِ العهدِ وترتيب مبادي الشرِّ والفساد وتمهيدِ مقدمات المكرِ والكيد في هدم أمرِ النبوة وإطفاءِ نورِ الدين والله متمٌّ نورَه ولو كره الكافرون .