قوله تعالى : { ثم لآتينهم من بين أيديهم } ، قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : { من بين أيديهم } أي من قبل الآخرة فأشككهم فيها .
قوله تعالى : { ومن خلفهم } ، أرغبهم في دنياهم .
قوله تعالى : { وعن أيمانهم } ، أشبه عليهم أمر دينهم .
قوله تعالى : { وعن شمائلهم } ، أشهي لهم المعاصي ، وروى عطية عن ابن عباس : { من بين أيديهم } من قبل دنياهم ، يعني أزينها في قلوبهم . { ومن خلفهم } ، من قبل الآخرة فأقول : لا بعث ، ولا جنة ، ولا نار ، { وعن أيمانهم } من قبل حسناتهم ، { وعن شمائلهم } من قبل سيئاتهم . وقال الحكم : { من بين أيديهم } : من قبل الدنيا يزينها لهم ، { ومن خلفهم } : من قبل الآخرة يثبطهم عنها ، وعن أيمانهم : من قبل الحق يصدهم عنه ، { وعن شمائلهم } : من قبل الباطل يزينه لهم . وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ، ولا جنة ، ولا نار ، ومن خلفهم : من أمور الدنيا يزينها لهم ، ويدعوهم إليها ، وعن أيمانهم : من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم : زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها ، أتاك يا بن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله ، وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم ، من حيث يبصرون ، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون ، وقال ابن جريج : معنى قوله حيث لا يبصرون ، أي لا يخطئون حيث يعلمون أنهم يخطئون ، وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون .
قوله تعالى : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } ، مؤمنين ، فإن قيل : كيف علم الخبيث ذلك ؟ قيل : قاله ظناً فأصاب ، قال الله تعالى { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } [ سبأ :20 ] .
{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي : من جميع الجهات والجوانب ، ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم .
ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم ، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم ، ظن وصدق ظنه فقال : { وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم ، وهو يريد صدهم عنه ، وعدم قيامهم به ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
وإنما نبهنا اللّه على ما قال وعزم على فعله ، لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا ، ونحترز منه بعلمنا ، بالطريق التي يأتي منها ، ومداخله التي ينفذ منها ، فله تعالى علينا بذلك ، أكمل نعمة .
وإنه سيأتي البشر من كل جهة : ( من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) . . للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة . . وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم ، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه ، اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب :
ويجيء ذكر الشكر ، تنسيقا مع ما سبق في مطلع السورة : ( قليلاً ما تشكرون ) . . لبيان السبب في قلة الشكر ؛ وكشف الدافع الحقيقي الخفي ، من حيلولة إبليس دونه ، وقعوده على الطريق إليه ! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى ؛ وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين !
وقوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ] }{[11601]} قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبَه عليهم أمر دينهم { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي .
وقال [ علي ]{[11602]} بن طلحة - في رواية - والعَوْفي ، كلاهما عن ابن عباس : أما { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فمن قبل دنياهم ، وأما { مِنْ خَلْفِهِمْ } فأمر آخرتهم ، وأما { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } فمن قِبَل حسناتهم ، وأما { عَنْ شَمَائِلِهِمْ } فمن قبل سيئاتهم .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : أتاهم { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فأخبرهم أنه{[11603]} لا بعث ولا جنة ولا نار { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و { عَنْ أَيْمَانِهِم } من قبل حسناتهم بَطَّاهم{[11604]} عنها { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } زين لهم السيئات والمعاصي ، ودعاهم إليها ، وأمرهم بها . آتاك يا ابن آدم من كل وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي ، والحكم بن عتيبة{[11605]} والسدي ، وابن جرير{[11606]} إلا أنهم قالوا : { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآخرة .
وقال مجاهد : " من بين أيديهم وعن أيمانهم " : حيث يبصرون ، " ومن خلفهم وعن شمائلهم " : حيث لا يبصرون .
واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر ، فالخير يصدهم عنه ، والشر يُحببه{[11607]} لهم .
وقال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ } ولم يقل : من فوقهم ؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال : موحدين .
وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم ، وقد وافق في هذا الواقع ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ سبأ : 20 ، 21 ] .
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها ، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا نَصْر بن علي ، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع ، عن يونس بن خَبَّاب ، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم - يعني نافع بن جبير - عن ابن عباس - وحدثنا عمر بن الخطاب - يعني السجستاني - حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ ، عن يونس بن خباب - عن ابن جبير بن مطعم - عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي ، وأهلي ومالي ، اللهم استر عَوْرَتي ، وآمن رَوْعَتِي{[11608]} واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بك{[11609]} اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي " . تفرد به البزار{[11610]} وحسنه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري ، حدثني جُبَير بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعم ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي : " اللهم إني أسألك العافية{[11611]} في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن رَوْعاتي ، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فَوْقِي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " . قال وكيع : يعني الخسف .
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حِبَّان ، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم ، به{[11612]} وقال الحاكم : صحيح الإسناد .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ لاَتِيَنّهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى قوله : لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من قِبَل الاَخرة ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قِبَل الدنيا ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ من قِبَل الحق ، وَعَنْ شَمائِلهمْ من قِبَل الباطل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيّنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ يقول : أشككهم في آخرتهم ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ أرغبهم في دنياهم وَعَنْ أيمانِهِمْ أشبه عليهم أمر دينهم ، وَعنْ شَمائِلِهِمْ أشهّي لهم المعاصي .
وقد رُوي عن ابن عباس بهذا الإسناد في تأويل ذلك خلاف هذا التأويل ، وذلك ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ يعني من الدنيا ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من الاَخرة ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ من قِبَل حسناتهم ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قِبَل سيئاتهم . وتحقق هذه الرواية الأخرى التي :
حدثني بها محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفهِم وعن أيمانهم وَعَنْ شَمائِلِهمْ قال : ما بين أيديهم فمن قبلهم أما ومن خلفهم فأمر آخرتهم وأما عن أيمانهم : فمن قِبَل حسناتهم وأما عن شمائلهم : فمن قِبَل سيئاتهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِم . . . الاَية ، أتاهم من بين أيديهم ، فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا ، فزينها لهم ودعاهم إليها وعن أيمانهم : من قِبَل حسناتهم بطّأهم عنها وعن شمائلهم : زيّن لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها ، أتاك يا ابن آدم من كلّ وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وقال آخرون : بل معنى قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من قِبَل دنياهم ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبَل آخرتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، في قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ قال : من بين أيديهم من قِبَل دنياهم ومن خلفهم من قِبَل آخرتهم . وَعَنْ أيمانِهِمْ من قِبَل حسناتهم ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ : من قبل سيئاتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحكم : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمَانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ قال : من بين أيديهم : من دنياهم ومن خلفهم : من آخرتهم وعن أيمانهم : من حسناتهم وعن شمائلهم : : من قِبَل سيئاتهم .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ قال : من قِبل الدنيا يزينها لهم ومن خلفهم من قِبَل الاَخرة يبطّئهم عنها وعن أيمانهم : من قِبَل الحقّ يصدّهم عنه وعن شمائلهم من قِبَل الباطل يرغبهم فيه ، ويزينه لهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ثُمّ لاََتِيَنّهُم مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أما من بين أيديهم : فالدنيا أدعوهم إليها وأرغبهم فيها ومن خلفهم : فمن الاَخرة أشككهم فيها وأبعّدها عليهم وعن أيمانهم يعني الحقّ فأشككهم فيه وعن شمائلهم : يعني الباطل أخففه عليهم ، وأرغبهم فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ من دنياهم أرغبهم فيها ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ آخرتهم أكفرهم بها وأزهدهم فيها ، وَعَنْ أيمَانِهِمْ حسناتهم أزهدهم فيها ، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ مساوىء أعمالهم أحسّنها إليهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قول الله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَعَنْ أيمَانِهِمْ قال : حيث يبصرون ، وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ حيث لا يبصرون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : تذاكرنا عند مجاهد قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ فقال مجاهد : هو كما قال : يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم . زاد ابن حميد ، قال : يأتيهم من ثَمّ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : قال مجاهد : فذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معناه : ثم لاَتينهم من جميع وجوه الحقّ والباطل ، فأصدّهم عن الحقّ وأحسّن لهم الباطل وذلك أن ذلك عقيب قوله : لأَقْعُدَنّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ فأخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرهم الله أن يسلكوه ، وهو ما وصفنا من دين الله الحقّ ، فيأتيهم في ذلك من كلّ وجوهه من الوجه الذي أمرهم الله به ، فيصدّهم عنه ، وذلك من بين أيديهم وعن أيمانهم ، ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه ، فيزينه لهم ويدعوهم إليه ، وذلك من خلفهم وعن شمائلهم . وقيل : ولم يقل : «من فوقهم » لأن رحمة الله تنزل على عباده من فوقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصريّ ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : ثُمّ لاََتِيَنّهُمْ مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ولم يقل : «من فوقهم » ، لأن الرحمة تنزل من فوقهم .
وأما قوله : ولاَ تَجد أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فإنه يقول : ولا تجد رب أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتك التي أنعمت عليهم كتكرمتك أباهم آدم بما أكرمته به ، من إسجادك له ملائكتك ، وتفضيلك إياه عليّ ، وشكرهم إياه طاعتهم له بالإقرار بتوحيده ، واتباع أمره ونهيه . وكان ابن عباس يقول في ذلك بما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ يقول : موحدين .
{ ثم لآتيتنهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم } أي من جميع الجهات الأربع . مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع ، ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه يوحش الناس . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : من بين أيديهم من قبل الآخرة ، ومن خلفهم من قبل الدنيا ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم . ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ، ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم . وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما موجة إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم ، ونظيره قولهم جلست عن يمينه . { ولا تجد أكثرهم شاكرين } مطيعين ، وإنما قاله ظنا لقوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } لما رأى فيهم مبدأ الشر متعددا ومبدأ الخير واحداً ، وقيل سمعه من الملائكة .
جملة : { ثم لأتيناهم } ( ثمّ ) فيها للتّرتيب الرّتبي ، وهو التّدرّج في الأخبار إلى خبر أهم لأنّ مضمون الجملة المعطوفة أوقع في غرض الكلام من مضمون الجملة المعطوف عليها ، لأنّ الجملة الأولى أفادت التّرصد للبشر بالإغواء ، والجملة المعطوفة أفادت التّهجّم عليهم بشتّى الوسائل .
وكما ضُرب المثل لهيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق ، كذلك مُثلت هيئة التّوسل إلى الإغواء بكلّ وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدوّ إذ يأتيه من كلّ جهة حتّى يصادف الجهة التي يتمكّن فيها من أخذه ، فهو يأتيه من بين يديه ومِن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتّى تخور قوّة مدافعته ، فالكلام تمثيل ، وليس للشّيطان مسلك للإنسان إلاّ من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة في نفسه ، وليست الجهات الأربع المذكوره في الآية بحقيقه ، ولكنّها مجاز تمثيلي بما هو متعارف في محاولة النّاس ومخاتلتهم ، ولذلك لم يذكر في الآية الإتيان من فوقهم ومن تحتهم إذ ليس ذلك من شأن النّاس في المخاتلة وإلاّ المهاجمة .
وعُلِّق { بين أيديهم } و { خلفهم } بحرف ( مِن ) وعلّق { أيمانهم } و { شمالهم } بحرف عن جرياً على ما هو شائع في « لسان العرب » في تعدية الأفعال إلى أسماء الجهات ، وأصل ( عن ) في قولهم : عن يمينه وعن شماله المجاوزة : أي من جهة يمينه مجاوِزا له ومجافياً له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( عن ) بمعنى على ، فكما يقولون : جلس على يمينه يقولون : جلس عن يمينه ، وكذلك ( مِن ) في قولهم مِن بين يديه أصلها الابتداء يقال : أتاه من بين يديه ، أي من المكان المواجه له ، ثمّ شاع ذلك حتّى صارت ( من ) بمنزلة الحرف الزّائد يجرّ بها الظّرف فلذلك جُرّت بها الظّروف الملازمة للظّرفيّة مثل عند ، لأنّ وجود ( مِن ) كالعدم ، وقد قال الحريري في « المقامة النّحويّة » ( مَا منصوبٌ على الظرف لا يَخفِضه سوى حرف : « فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة » .
والأيمان جمع يمين ، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس ، تعارفه النّاس ، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه ، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك . وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى : { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } [ الصافات : 28 ] . وقال امرؤ القيس :
عَلَى قَطَنٍ بالشَّيْمِ أيْمَنُ صَوبه
لذلك قال أيمّة اللّغة سمّيت بلاد اليَمَن يَمَناً لأنّه عن يمين الكعبة ، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبِلٍ مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان ، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة ( يَمِين ) ، ولا أن اليُمْن أصل لها أو فرع عنها ، والأيمان جمع قياسي .
والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالاً لمستقبللِ مشرِق الشّمس ، وهو جمع على غير قياس .
وقوله : { ولا تجد أكثرهم شاكرين } زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلاّ القليل من النّاس ، وقد عَلِم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات .
وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] ووجهُ هذه الكناية ، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس ، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر ، وإن كانت من كلام الله تعالى ففيها تنبيه على أنّ المشركين بالله قد أتَوا أمراً شنيعاً إذ لم يشكروا نعمه الجمّة عليهم .