{ الذي خلق سبع سماوات طباقا } طبقاً على طبق بعضها فوق بعض ، { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } قرأ حمزة والكسائي : من تفوت بتشديد " الواو " بلا ألف ، وقرأ الآخرون بتخفيف " الواو " وألف قبلها ، وهما لغتان كالتحمل والتحامل ، والتظهر والتظاهر . ومعناه : ما ترى يا ابن آدم في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض ، بل هي مستقيمة مستوية . وأصله من الفوت وهو أن يفوت بعضها بعضاً لقلة استوائها ، { فارجع البصر } كرر النظر ، معناه : انظر ثم ارجع ، { هل ترى من فطور } شقوق وصدوع .
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي : كل واحدة فوق الأخرى ، ولسن طبقة واحدة ، وخلقها في غاية الحسن والإتقان { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } أي : خلل ونقص .
وإذا انتفى النقص من كل وجه ، صارت حسنة كاملة ، متناسبة من كل وجه ، في لونها وهيئتها وارتفاعها ، وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات ، الثوابت منهن والسيارات .
ولما كان كمالها معلومًا ، أمر [ الله ] تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها ، قال :
{ فَارْجِعِ الْبَصَرَ } أي : أعده إليها ، ناظرًا معتبرًا { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : نقص واختلال .
ثم يربط هذه الحقيقة بالكون كله في أكبر وأرفع مجاليه ؛ كما يربط به من الناحية الأخرى حقيقة الجزاء في الآخرة ، بعد الابتلاء بالموت والحياة :
الذي خلق سبع سماوات طباقا ، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ، فارجع البصر هل ترى من فطور ? ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير . ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ، وجعلناها رجوما للشياطين ، واعتدنا لهم عذاب السعير . وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم ، وبئس المصير . إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور . تكاد تميز من الغيظ ، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها : ألم يأتكم نذير ? قالوا : بلى ! قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا : ما نزل الله من شيء ، إن أنتم إلا في ضلال كبير . وقالوا : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير . فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ! .
وكل ما في هذه الآيات آثار لمدلول الآية الأولى ، ومظاهر للهيمنة المتصرفة في الملك ، وللقدرة التي لا يقيدها قيد . ثم هي بعد ذلك تصديق للآية الثانية من خلق الموت والحياة للابتلاء ، ثم الجزاء . .
والسماوات السبع الطباق التي تشير إليها الآية لا يمكن الجزم بمدلولها ، استقاء من نظريات الفلك ، فهذه النظريات قابلة للتعديل والتصحيح ، كلما تقدمت وسائل الرصد والكشف . ولا يجوز تعليق مدلول الآية بمثل هذه الكشوف القابلة للتعديل والتصحيح . ويكفي أن نعرف أن هناك سبع سماوات . وأنها طباق بمعنى أنها طبقات على أبعاد متفاوتة .
والقرآن يوجه النظر إلى خلق الله ، في السماوات بصفة خاصة وفي كل ما خلق بصفة عامة . يوجه النظر إلى خلق الله ، وهو يتحدى بكماله كمالا يرد البصر عاجزا كليلا مبهورا مدهوشا .
( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) . . فليس هناك خلل ولا نقص ولا اضطراب . . ( فارجع البصر ) . . وانظر مرة أخرى للتأكد والتثبت ( هل ترى من فطور ? ) . . وهل وقع نظرك على شق أو صدع أو خلل ?
ثم قال : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } أي : طبقة بعد طبقة ، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض ، أو متفاصلات بينهن خلاء ؟ فيه قولان ، أصحهما الثاني ، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره .
وقوله : { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } أي : بل هو مصطحب مستو ، ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة ، ولا نقص ولا عيب ولا خلل ؛ ولهذا قال : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : انظر إلى السماء فتأملها ، هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خللا ؛ أو فطورًا ؟ .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والثوري ، وغيرهم في قوله : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : شقوق .
وقال السدي : { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : من خُروق . وقال ابن عباس في رواية : { مِنْ فُطُورٍ } أي : من وُهِيّ{[29106]} وقال قتادة : { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } أي : هل ترى خَلَلا يا ابن آدم ؟ .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مّا تَرَىَ فِي خَلْقِ الرّحْمََنِ مِن تَفَاوُتِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىَ مِن فُطُورٍ * ثُمّ ارجِعِ البَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : مخبرا عن صفته الّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِباقا ، طبقا فوق طبق ، بعضها فوق بعض .
وقوله : ما تَرَى في خَلْقِ الرّحْمَنِ مِنْ تَفاوُت يقول جلّ ثناؤه : ما ترى في خلق الرحمن الذي خلق لا في سماء ولا في أرض ، ولا في غير ذلك من تفاوت ، يعني من اختلاف . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما تَرَى فِي خَلْقِ الرّحْمَنِ مِنْ تَفاوُتٍ : ما ترى فيهم من اختلاف .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله منْ تَفَاوُتٍ قال : من اختلاف .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : مِنْ تَفاوُتٍ بألف . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «مِنْ تَفَوّتٍ » بتشديد الواو بغير ألف .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان بمعنى واحد ، كما قيل : ولا تُصَاعِرْ ، ولا تُصَعّر ، وتعهّدت فلانا ، وتعاهدته ، وتظهّرت ، وتظاهرت ، وكذلك التفاوت والتفوّت .
وقوله : فارّجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ، يقول : فرد البصر ، هل ترى فيه من صُدوع ؟ وهي من قول الله : تَكادُ السّمَوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِن فَوْقِهِن بمعنى يتشققن ويتصدّعْنَ ، والفُطُور مصدر فُطِر فطُورا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ قال : الفطور : الوَهْيُ ،
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور ، يقول : هل ترى من خلل يا ابن آدم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مِنْ فُطُورٍ قال : من خلل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ قال : من شقوق .
الذي خلق سبع سموات طباقا : مطابقة بعضها فوق بعض ، مصدر طابقت النعل إذا خلطتها طبقا على طبق وصف به أو طوبقت طباقا أو ذات طباق جمع طبق كجبل وجبال أو طبقة كرحبة ورحاب . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ، وقرأ حمزة والكسائي من تفوت ، ومعناهما واحد كالتعاهد والتعهد وهو الاختلاف وعدم التناسب من الفوت ، كأن كلا من المتفاوتين فات عنه بعض ما في الآخر . والجملة صفة ثانية ل سبع وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأنه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة وتفضلا ، وأن في إبداعها نعما جليلة لا تحصى ، والخطاب فيها للرسول أو لكل مخاطب . وقوله : فارجع البصر هل ترى من فطور ، متعلق به على معنى التسبب ، أي قد نظرت إليها مرارا فانظر إليها مرة أخرى متأملا فيها لتعاين ما أخبرت به من تناسبها واستقامتها واستجماعها ما ينبغي لها ، والفطور الشقوق ، والمراد الخلل من فطره إذا شقه .