17- والذي قال لوالديه حين دعواه إلى الإيمان بالبعث متضجراً منهما ومنكراً عليهما : أف لكما ، أتعدانني بالخروج من القبر وقد مضت الأمم من قبلي ولم يبعث من القبور أحد ؟ وأبواه يستغيثان الله استعظاماً لجرمه ، ويقولان له حثَّا على الإيمان : هلكت إن لم تؤمن ، إن وعد الله بالبعث حق ، فيقول - إمعاناً في التكذيب - : ما هذا الذي تقولانه إلا خرافات سطرها الأولون .
قوله تعالى : { والذي قال لوالديه } إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث ، { أف لكما } وهي كلمة كراهية ، { أتعدانني أن أخرج } من قبري حياً ، { وقد خلت القرون من قبلي } فلم يبعث منهم أحد ، { وهما يستغيثان الله } يستصرخان ويستغيثان الله عليه ، ويقولان له : { ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا } ما هذا الذي تدعواني إليه ، { إلا أساطير الأولين } قال ابن عباس ، والسدي ، ومجاهد : نزلت في عبد الله . وقيل : في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ، ويقول : أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون . وأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر . والصحيح أنها نزلت في كافر عاق لوالديه ، قاله الحسن وقتادة . وقال الزجاج : قول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، يبطله قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول } الآية ، أعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب ، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب .
{ 17-19 } { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
لما ذكر تعالى حال الصالح البار لوالديه ذكر حالة العاق وأنها شر الحالات فقال : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ } إذ دعواه{[783]} إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وخوفاه الجزاء .
وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما أن يدعواه إلى ما فيه سعادته الأبدية وفلاحه السرمدي فقابلهما بأقبح مقابلة فقال : { أُفٍّ لَكُمَا } أي : تبا لكما ولما جئتما به .
ثم ذكر وجه استبعاده وإنكاره لذلك فقال : { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } من قبري إلى يوم القيامة { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } على التكذيب وسلفوا على الكفر وهم الأئمة المقتدى بهم لكل كفور وجهول ومعاند ؟ { وَهُمَا } أي : والداه { يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } عليه ويقولان له : { وَيْلَكَ آمِنْ } أي : يبذلان غاية جهدهما ويسعيان في هدايته أشد السعي حتى إنهما -من حرصهما عليه- أنهما يستغيثان الله له استغاثة الغريق ويسألانه سؤال الشريق ويعذلان ولدهما ويتوجعان له ويبينان له الحق فيقولان : { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ثم يقيمان عليه من الأدلة ما أمكنهما ، وولدهما لا يزداد إلا عتوا ونفورا واستكبارا عن الحق وقدحا فيه ، { فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي : إلا منقول من كتب المتقدمين ليس من عند الله ولا أوحاه الله إلى رسوله ، وكل أحد يعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب ولا يقرأ ولا تعلم من أحد ، فمن أين يتعلمه ؟ وأنى للخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ؟ .
فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال :
( والذي قال لوالديه : أف لكما ! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? ) . .
فالوالدان مؤمنان . والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد ؛ فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح : أف لكما ! . . ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية : أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? . . أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد . . والساعة مقدرة إلى أجلها . والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا . ولم يقل أحد إنه تجزئة . يبعث جيل مضى في عهد جيل ياتي . فليست لعبة وليست عبثا . إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها !
والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر ، ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما ؛ ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول ؛ ويهتفان به : ( وهما يستغيثان الله . ويلك آمن . إن وعد الله حق ) . . ويبدو في حكاية قولهما الفزع من هول ما يسمعان . بينما هو يصر على كفره ، ويلج في جحوده : ( فيقول : ما هذا إلا أساطير الأولين ) . .
لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } - وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف ؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه .
وروى العَوْفي ، عن ابن عباس : أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق . وفي صحة هذا نظر ، والله أعلم .
وقال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر . وهذا أيضا قاله ابن جريج .
وقال آخرون : عبد الرحمن بن أبي بكر . وقاله{[26429]} السدي . وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق ، فقال لوالديه : { أُفٍّ لَكُمَا } عقهما .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، أخبرني عبد الله بن المديني قال : إني لفي المسجد حين خطب مَرْوان ، فقال : إن الله أرى{[26430]} أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا ، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية ؟ ! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ، ولا أحدا من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده . فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك ؟ قال : وسمعتهما عائشة فقالت : يا مروان ، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ؟ كذبتَ ، ما فيه نزلت ، ولكن نزلت في فلان بن فلان . ثم انتحب مروان ، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها ، فجعل يكلمها حتى انصرف {[26431]} .
وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر ، فقال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بِشْر ، عن يوسف بن مَاهَك قال : كان مَرْوان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه . فدخل بيت عائشة ، رضي الله عنها ، فلم يقدروا عليه ، فقال {[26432]} مروان : إن هذا الذي أنزل فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عُذرِي{[26433]} .
طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أميَّة بن خالد ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه ، قال مروان : سُنَّة أبي بكر وعمر . فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سُنَّة هرقل وقيصر . فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } الآية ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ! والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه ، فمروان فَضَضٌ{[26434]} من لعنة الله{[26435]} .
وقوله : { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي : [ أن ] {[26436]} أبعث { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } أن {[26437]} قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر ، { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي : يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما : { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفّ لّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيَ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَيَقُولُ مَا هََذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ } .
وهذا نعت من الله تعالى ذكره نعت ضالّ به كافر ، وبوالديه عاقّ ، وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله ، فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ ، ونصيحتهما له إلا عتوّا وتمرّدا على الله ، وتماديا في جهله ، يقول الله جلّ ثناؤه وَالّذِي قالَ لِوَالِدَيْهِ أن دعواه إلى الإيمان بالله ، والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم ، ومجازاته إياهم بأعمالهم أُفَ لَكُما يقول : قذرا لكما ونتنا أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ يقول أتعدانني أن أخرج من قبري من بعد فنائي وبلائي فيه حيا . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ أن أُبعَث بعد الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ قال : يعني البعث بعد الموت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَالّذِي قال لِوَالِدَيْهِ أُفَ لَكُما أتَعِدَانِنِي . . . إلى آخر الاَية قال : الذي قال هذا ابن لأبي بكر رضي الله عنه ، قال : أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ : أتعدانني أن أُبعث بعد الموت .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَالّذِي قالَ لِوَالِدَيْهِ أُفَ لَكُما أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ قال : هو الكافر الفاجر العاقّ لوالديه ، المكذب بالبعث .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ثم نعت عبد سوء عاقا لوالديه فاجرا فقال : وَالّذِي قالَ لِوَالِدَيْهِ أُفَ لَكُما . . . إلى قوله : أساطِيرُ الأوّلِينَ .
وقوله : وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِنْ قَبْلِي يقول : أتعدانني أن أبعث ، وقد مضت قرون من الأمم قبلي ، فهلكوا ، فلم يبعث منهم أحدا ، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان ، لكان قد بُعث من هلك قبلي من القرون وهُمَا يَسْتَغِيثانِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : ووالداه يستصرخان الله عليه ، ويستغيثانه عليه أن يؤمن بالله ، ويقرّ بالبعث ويقولان له : ويْلَك آمن ، أي صدّق بوعد الله ، وأقرّ أنك مبعوث من بعد وفاتك ، إن وعد الله الذي وعد خلقه أنه باعثهم من قبورهم ، ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حقّ لا شكّ فيه ، فيقول عدوّ الله مجيبا لوالديه ، وردّا عليهما نصيحتهما ، وتكذيبا بوعد الله : ما هذا الذي تقولان لي وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من بعد وفاتي من قبري ، إلا ما سطره الأوّلون من الناس من الأباطيل ، فكتبوه ، فأصبتماه أنتما فصدّقتما .