قوله تعالى : { يوم تجد كل نفس } نصب " يوم " بنزع حرف الصفة ، أي في يوم ، وقيل بإضمار فعل أي : اذكروا واتقوا يوم تجد كل نفس .
قوله تعالى : { ما عملت من خير محضرا } لم يبخس منه شيء ، كما قال الله تعالى ( ووجدوا ما عملوا حاضراً ) .
قوله تعالى : { وما عملت من سوء } جعله بعضهم " خبراً " في موضع النصب ، أي : تجد محضراً ما عملت من الخير والشر ، فتسر بما عملت من الخير ، وجعل بعضهم خبراً مستأنفا ، دليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً .
قوله تعالى : { تود لو أن بينها } أي بين النفس .
قوله تعالى : { وبينه } يعني وبين السوء .
قوله تعالى : { أمداً بعيداً } . قال السدي مكاناً بعيداً . وقال مقاتل : كما بين المشرق والمغرب ، والأمد الأجل والغاية التي ينتهي إليها . وقال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقي عمله أبداً . وقيل : يود أنه لم يعمله .
وفي ضمن أخبار الله عن علمه وقدرته الإخبار بما هو لازم ذلك من المجازاة على الأعمال ، ومحل ذلك يوم القيامة ، فهو الذي توفى به النفوس بأعمالها فلهذا قال { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا } أي : كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره } والخير : اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها ، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا } أي : مسافة بعيدة ، لعظم أسفها وشدة حزنها ، فليحذر العبد من أعمال السوء التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن ، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا } { حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } فوالله لترك كل شهوة ولذة وإن عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح ، ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر ، فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا ، ويحجم عن ما يضره عاجلا وآجلا ، ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا ، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح ، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب ، فقال { ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد } فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام ، حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه .
ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب ؛ الذي لا يند فيه عمل ولا نية ؛ والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله :
( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) . .
وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري ، وتحاصره برصيده من الخير والسوء . وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد ، ويود - ولكن لات حين مودة ! - لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمدا بعيدا . أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمدا بعيدا . بينما هو في مواجهته ، آخذ بخناقه ، ولات حين خلاص ، ولات حين فرار !
ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري ، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه - سبحانه - :
ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان :
ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير . وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد . .
وتشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات ، بما كان واقعا في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود . تحت دوافع القرابة أو التجارة . . على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها ، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة . . الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقا . .
كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق ، والتحرر من تلك القيود ، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه .
والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه ، ولو كان على غير دينه . . ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى . الولاء ارتباط وتناصر وتواد . وهذا لا يكون - في قلب يؤمن بالله حقا - إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله ؛ ويخضعون معه لمنهجه في الحياة ؛ ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام .
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ويحذّركم الله نفسه ، في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا موفرا ، وما عملت من سوء { تودّ لو أنّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا } : يعني : غاية بعيدة ، فإن مصيركم أيها القوم يومئذٍ إليه ، فاحذوره على أنفسكم من ذنوبكم . وكان قتادة يقول في معنى قوله : { مُحْضَرا } ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرا } يقول موفّرا .
وقد زعم أهل العربية أن معنى ذلك : واذكر يوم تجد ، وقال : إن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر ، كأنه قيل لهم : اذكروا كذا وكذا ، لأنه في القرآن في غير موضع ، واتقوا يوم كذا وحين كذا . وأما «ما » التي مع عملت فبمعنى الذي ، ولا يجوز أن تكون جزاء لوقوع «تجد » عليه .
وأما قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ } فإنه معطوف على قوله : «ما » الأولى ، و«عملت » صلة بمعنى الرفع ، لمّا قيل «تود » . فتأويل الكلام : يوم تجد كل نفس الذي عملت من خير محضرا ، والذي عملت من سوء ، تودّ لو أن بينها وبينه أمدا . والأمد : الغاية التي ينتهي إليها ، ومنه قول الطرماح :
كلّ حَيّ مُسْتَكْمِلٌ عِدّةَ العُمْ *** رِ ومُودٍ إذَا انْقَضَى أمَدُهْ
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أمَدا بَعِيدا } مكانا بعيدا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { أمَدا بَعِيدا } قال : أجلاً .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَدا بَعِيدا } قال : يسرّ أحدهم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذّها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ويُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ } .
يقول جلّ ثناؤه : ويحذّركم الله نفسه أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم ، فتوافونه ، يوم تجد كل نفسه ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، وهو عليكم ساخط ، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به . ثم أخبر عزّ وجلّ أنه رءوف بعباده رحيم بهم ، ومن رأفته بهم تحذيره إياهم نفسه ، وتخويفهم عقوبته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن الحسن في قوله : { وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ } قال : من رأفته بهم أن حذّرهم نفسه .
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } { يوم } منصوب بتود أي تتمنى كل نفس يوم تجد صحائف أعمالها ، أو جزاء أعمالها من الخير والشر حاضرة لو أن بينها وبين ذلك اليوم ، وهو له أمدا بعيدا ، أو بمضمر نحو اذكر ، و{ تود } حال من الضمير في عملت أو خبر لما عملت من سوء وتجد مقصور على { ما عملت من خير } ، ولا تكون { ما } شرطية لارتفاع { تود } . وقرئ " ودت " وعلى هذا يصح أن تكون شرطية ولكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنه حكاية كائن وأوفق للقراءة المشهورة . { ويحذركم الله نفسه } كرره للتأكيد والتذكير . { والله رؤوف بالعباد } إشارة إلى أنه تعالى إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة لصلاحهم ، أو أنه لذو مغفرة وذو عقاب أليم فترجى رحمته ويخشى عذابه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم خوفهم ورغبهم فقال: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا} يعجل لها كل خير عملته، ولا يغادر منه شيء.
{وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا}: أجلا بعيدا بين المشرق والمغرب.
{ويحذركم الله نفسه}: عقوبته في عمل السوء.
{والله رءوف بالعباد}: بَرٌّ بهم، حين لا يعجل عليهم بالعقوبة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ويحذّركم الله نفسه، في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا موفرا، وما عملت من سوء {تودّ لو أنّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا}: غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذٍ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم. وقد زعم أهل العربية أن معنى ذلك: واذكر يوم تجد، وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع، واتقوا يوم كذا وحين كذا.
{وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}: والذي عملت من سوء، تودّ لو أن بينها وبينه أمدا. والأمد: الغاية التي ينتهي إليها... {أمَدا بَعِيدا}: مكانا بعيدا... {أمَدا بَعِيدا}: أجلاً...
يسرّ أحدهم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذّها.
{ويُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}: ويحذّركم الله نفسه أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه، يوم تجد كل نفسه ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به. ثم أخبر عزّ وجلّ أنه رءوف بعباده رحيم بهم، ومن رأفته بهم تحذيره إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه... من رأفته بهم أن حذّرهم نفسه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والله رؤوف بالعباد} فالرحمة من الله، جل ثناؤه، والرأفة نوعان:...
أحدهما: في حق الابتداء أن خلق خلقا ركب فيهم، ما يميزون به بين مختلف الأمور، ويجمعون بين المؤتلف، ثم لم يأخذ كلا منهم بما استحق من العقوبة، بل رحم، وأمهل التوبة والرجوع إليه، وهذه الرحمة رحمة عامة، لا يخلو عنها عبد...
والثاني: رحمة في حق الجزاء من التجاوز والمغفرة وإيجاب الثواب للفعل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وَدَّ أهل الطاعات أَنْ لو استكثروا منها، ووَدَّ أهل المخالفات أَنْ لو كبحوا لجامهم عن الركض في ميادينهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم الوصف بالعلم والقدرة بعد التحذير من سطواته ذكر يوم المصير المحذر منه، المحصى فيه كل كبير وصغير، المعامل فيه كل عامل بما يليق به، الذي يتم فيه انكشاف الأوصاف لكل ذكي وغبي فقال تعالى: {يوم} وهو معمول لعامل من معنى "يحذر "{تجد كل نفس} والذي يرشد إلى تعيين تقدير هذا العامل -إذا جعل العامل مقدراً- قوله سبحانه وتعالى {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] سابقاً لها ولاحقاً... والمراد بالنفس -والله سبحانه وتعالى أعلم- المكلفة {ما عملت من خير محضراً} أي لا نقص فيه ولا زيادة، بأمر القاهر القادر على كل شيء {وما عملت من سوء} حاضراً ملازماً، فما عملت من خير تود أنها لا تفارقه ولا ينقص منه شيء [وما عملت من سوء {تود} أي تحب حباً شديداً {ولو أن بينها وبينه} أي ذلك العمل السوء... {بعيداً} من البعد، وهو منقطع الوصلة في حس أو معنى... {رؤوف بالعباد}... والرأفة -يقول أهل المعاني- هي أرق الرحمة، والذي يفصح عن المعنى -والله سبحانه وتعالى أعلم- أنها عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، فمن تحقق أن الأمر لله سبحانه وتعالى وجد رفقه وفضله ورحمته عليه لما برئ من دعوى شيء من نسبة الخير إلى نفسه، فأحبه لذلك، قيل لأعرابي: إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله؟ فقال: أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام ما معناه: الكلام تتمة لوعيد من يوالي الكافرين ناصرا إياهم على المؤمنين. والمعنى اتقوا واحذروا أو لتحذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير مهما قل محضرا. ولا يجوز تقدير "اذكر "متعلقا لقوله "يوم تجد" كما فعل الجلال. ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لديه. أما عمل السوء فتود كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره وتؤخذ بجزائه. وهذا يدل على أن عمل الشرك يكون محضرا أيضا ولكنه عبر عنه بما ذكر ليدل على أن إحضاره مؤذ لصاحبه يود لو لم يكن، أي ومنه يعلم أن إحضار عمل الخير يكون غبطة لصاحبه وسرورا. وقال الأستاذ الإمام إن هذا التعبير ضرب من التمثيل كالآيات التي فيها ذكر كتب الأعمال وأخذها بالأيمان والشمائل فإن الغرض من التعبير بأخذها باليمين أخذها بالقبول الحسن ومن أخذها بالشمال أو من وراء الظهر أخذها مع الكراهة والامتعاض.
أقول: وكيف لا تجد كل نفس ما عملت محضرا فتسر المحسنة وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغم بما أساءت، وتود لو كان بينها وبينه بعد المشرقين وهذه الأعمال مرسومة في صحائف هذه الأنفس وهي صفات لها وعن هذه الصفات صدرت تلك الحركات فزادت الصفات رسوخا والنقوش في النفس تمكنا حتى ارتقت بالمحسن إلى عليين، حيث كتاب الأبرار، وهبطت بالمسيء إلى سجين، حيث كتاب الفجار، {ويحذركم الله نفسه} فإنه من ورائكم محيط وسنته في تأثير الأعمال في النفوس وجعل آثار أعمالها مصدرا لجزائها حاكمة عليكم، أفلا يجب عليكم والأمر كذلك أن تحذروه بما أوتيتم من القدرة على الخير والميل إليه بترجيحه على ما يعرض على الفترة من تزيين عمل السوء والتوبة إليه سبحانه ما غلبتم عليه في الماضي {والله رؤوف بالعباد} ومن رأفته: أن جعل الفطرة سليمة ميالة بطبعها إلى الخير وتتألم مما يعرض لها من الشر، وأن جعل للإنسان أنواعا من الهدايات يرجح بها الخير على الشر كالعقل والدين، وأن جعل جزاء الخير مضاعفا وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح، وأن أكثر التحذير من عاقبة السوء ليذكر الإنسان ولا ينسى، لعله يتذكر أو يخشى.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا} أي: كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة، كما قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} والخير: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها... {وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا} أي: مسافة بعيدة، لعظم أسفها وشدة حزنها، فليحذر العبد من أعمال السوء التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} {يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض} {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب؛ الذي لا يند فيه عمل ولا نية؛ والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله:
(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا)..
وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري، وتحاصره برصيده من الخير والسوء. وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد، ويود -ولكن لات حين مودة!- لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمدا بعيدا. أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمدا بعيدا. بينما هو في مواجهته، آخذ بخناقه، ولات حين خلاص، ولات حين فرار!
ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه -سبحانه -:
ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان:
ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير. وهو دليل على إرادته الخير والرحمة بالعباد.
وتشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات، بما كان واقعا في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود. تحت دوافع القرابة أو التجارة.. على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة.. الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقا..
كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق، والتحرر من تلك القيود، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه.
والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه، ولو كان على غير دينه.. ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى. الولاء ارتباط وتناصر وتواد. وهذا لا يكون- في قلب يؤمن بالله حقا -إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله؛ ويخضعون معه لمنهجه في الحياة؛ ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {ويحذركم الله نفسه} يجوز أن يكون تكريراً للتحذير الأول لِزيادة التأكيد... ويجوز أن يكون الأول تحذيراً من موالاة الكافرين، والثاني تحذيراً من أن يجدوا يوم القيامة ما عملوا من سوء محضراً. والخطاب للمؤمنين ولذلك سمّى الموعظة تحذيراً: لأنّ المحذّر لا يكون متلبّساً بالوقوع في الخطر، فإنّ التحذير تبعيد من الوقوع وليس انتشالاً بعدَ الوقوع وذيّله هنا بقوله: {والله رؤوف بالعباد} للتذكير بأنّ هذا التحذير لمصلحة المحذّرين. والتعريف في العباد للاستغراق: لأنّ رأفة الله شاملة لكلّ الناس مسلمهم وكافرهم: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة} [فاطر: 45] {الله لطيف بعباده} [الشورى: 19] وما وعيدهم إلاّ لجلب صلاحهم، وما تنفيذه بعد فوات المقصود منه إلاّ لصدق كلماته، وانتظامِ حكمته سبحانه...
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً}... فقد يكون تفسير هذه الآية فوق ما نقول، إنهم الآن يستطيعون تصوير شريط لعمل ما وبعد مدة يقول الإنسان للآخر: انظر ماذا فعلت وماذا قلت إن العمل المسجل بالشريط يكون حاضرا ومصورا، فإذا كنا نحن البشر نستطيع أن نفعل ذلك بوسائلنا فماذا عن وسائل الحق سبحانه وتعالى؟ لا بد أنها تفوقنا قدرة، إنه الحق يعلم كل شيء، في الصدر، أو في السماوات أو في الأرض.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ثم تختم الآية بإثارة المشاعر المشبعة بالرأفة والرحمة في علاقة الله بعباده، {وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ} فإنه يعاملهم بالرأفة والرحمة، حتى في الحالات التي يحذّرهم ويتوعّدهم فيها، لأنه يريد بذلك إصلاحهم وإيصالهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ليظل الإنسان مشدوداً إلى رحمة الله، حتى وهو ينتظر العذاب، فيقوده تفكيره إلى أن يتصور العذاب رأفةً، لو أمكنه أن يمتد بعيداً في هذا التصور والتفكير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة، فيرى كلّ امرئ ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضراً أمامه. فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها (تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) فالآية لم تقل أنه يتمنّى فناء عمله وسيئاته، لأنه يعلم أن كلّ شيء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيراً.
«الأمد» في اللغة الزمان المحدود، و «الأبد» اللامحدود، والأمد يقصد من استعماله غالباً انتهاء الزمان، وإن استعمل أحياناً أيضاً في مطلق الزمان المحدود.
بناءاً على ذلك، فإنّ المذنبين كما تقول الآية يتمنّون أنّ يمتدّ الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلاً، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جرّاء أعمالهم السيّئة، لأنّ طلب البُعد الزماني أبلغ في التعبير عن هذا الاستياء من طلب البُعد المكاني، فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني، بينما ينتفي هذا الاحتمال تماماً في الفاصل الزماني.
فإذا عاش أحد مثلاً في فترة الحرب العالمية، شمله القلق والاضطراب وإن ابتعد مكانياً عن منطقة الحرب، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق.
هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة «الأمد» معنى البُعد المكاني أيضاً، غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر.
(ويحذّركم الله نفسه واللهُ رؤوفٌ بالعباد).
في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره، وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته. ويبدو أنّ هذين الجزءين هما على عادة القرآن مزيج من الوعد والوعيد. ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني (والله رؤوف بالعباد) توكيداً للجزء الأوّل (ويحذّركم الله نفسه)، وهذا أشبه بمن يقول لك: إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر، وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك، إذ لولا حبّي لك لما حذّرتك.
القرآن وتجسيد الأعمال وحضورها:
هذه الآية تبيّن بكل وضوح تَجسُّد الأعمال وحضورها يوم القيامة. كلمة «تجد» من الوجود ضدّ العدم. ولفظتا «خير» و «سوء» وردتا نكرتين لتفيدا العموم. أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة.
بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها، أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها.
ولكن من الجلي أنّ ذلك لا ينسجم وظاهر الآية، لأنّ الآية تقول بوضوح إنّ الإنسان يوم القيامة «يجد» عمله. وتقول: إنّ المسيء يودّ لو أنّ بينه وبين «عمله» القبيح فواصل مديدة. فهنا «العمل» نفسه هو الذي يدور حوله الكلام. لا سجلّ الأعمال، ولا الثواب والعقاب.
كذلك نقرأ في الآية أنّ المسيء يودّ لو بَعُدَ عنه عمله، ولكنّه لا يتمنّى زوال عمله إطلاقاً. وهذا يعني أنّ زوال الأعمال غير ممكن، ولذلك فهو لا يتمنّاه.
هناك آيات كثيرة أخرى تؤيّد هذا الأمر، كالآية 49 من سورة الكهف.
(وَ وَجَدوا مَا عَمِلُوا حاضِراً ولا يَظلِمُ رَبُّكَ أحَداً) والآيتان 7 و 8 من سورة الزلزال (فَمَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَل مِثقالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ).
سبق أن قلنا إنّ بعض المفسّرين يرون أنّ لفظ «الجزاء» مقدّر وهذا خلاف ظاهر الآية.
يستفاد من بعض الآيات أنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وأنّ عمل الإنسان أشبه بالحبّ الذي يُزرع في التربة، فتنمو تلك الحبّة، ثمّ يحصد الإنسان معها حبّاً كثيراً. كذلك هي أعمال الإنسان التي تجري عليها تبدّلات وتغيّرات تناسب يوم القيامة، ثمّ تعود إلى الإنسان نفسه، كما جاء في الآية 20 من سورة الشورى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه).
ويستفاد من آيات أخرى أنّ الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة بصورة نور وضياء، فيطلبه المنافقون من المؤمنين: (انظرُونا نَقتَبِس مِن نُورِكم)
فيقال لهم: (ارجعوا وراءكم فالتمِسُوا نوراً).
هذه الآيات وغيرها العشرات تدلّ على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه بشكل أكمل، وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام...