88- لا تنظر - أيها الرسول - نظرة تمن ورغبة إلي ما أعطيناه من مُتَع الدنيا أصنافاً من الكفار المشركين واليهود والنصارى والمجوس ، فإنه مستصغر بالنسبة لما أوتيته من كمال الاتصال بنا ومن القرآن العظيم ، ولا تحزن عليهم بسبب استمرارهم علي غيهم ، وَأَلِنْ جانبك وتواضع وارفق بالذين معك من المؤمنين ، فإنهم قوة الحق وأهل اللَّه .
قوله تعالى : { لا تمدن عينيك } ، يا محمد ، { إلى ما متعنا به أزواجاً } ، أصنافا ، { منهم } أي : من الكفار متمنيا لها نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الدنيا ومزاحمة أهلها عليها . { ولا تحزن عليهم } ، أي : لا تغنم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا أبو جعفر أحمد بن محمد ابن العنزي ، حدثنا عيسى بن نصر ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا جهم بن أوس ، قال : سمعت عبد الله بن مريم - مر به عبد الله بن رستم في موكبه ، فقال لابن أبي مريم : إني لاشتهي مجالستك وحديثك ، فلما مضى قال ابن مريم - سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تغبطن فاجرا بنعمته ، فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته ، إن له عند الله قاتلا لا يموت " ، فبلغ ذلك وهب بن منبه فأرسل إليه وهب أبا داود الأعور ، قال : يا أبا فلان ما قاتلا لا يموت ؟ قال ابن أبي مريم : النار .
أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفر السرخسي ، أنبأنا أبو سعيد أحمد بن محمد ابن الفضل الفقيه ، حدثنا أبو الحسن بن إسحاق ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي ، أنبأنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " . وقيل : هذه الآية متصلة بما قبلها لما من الله تعالى عليه بالقرآن نهاه عن الرغبة في الدنيا . روي أن سفيان بن عيينة - رحمه الله - تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي : لم يستغن بالقرآن . فتأول هذه الآية . قوله تعالى : { واخفض جناحك } ، لين جناحك { للمؤمنين } ، وارفق بهم ، والجناحان لابن آدم جانباه .
{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أي : لا تعجب إعجابا يحملك على إشغال فكرك بشهوات الدنيا التي تمتع بها المترفون ، واغترَّ بها الجاهلون ، واستغن بما آتاك الله من المثاني والقرآن العظيم ، { ولا تحزن عليهم } فإنهم لا خير فيهم يرجى ، ولا نفع يرتقب ، فلك في المؤمنين عنهم أحسن البدل وأفضل العوض ، { واخفض جناحك للمؤمنين } أي : ألن لهم جانبك ، وحسِّن لهم خلقك ، محبة وإكراما وتودُّدا ،
( لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ، ولا تحزن عليهم ، واخفض جناحك للمؤمنين . وقل : إني أنا النذير المبين ) . .
( لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ) . .
والعين لا تمتد . إنما يمتد البصر أي يتوجه . ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع . وهي صورة طريفة حين يتصورها المتخيل . والمعنى وراء ذلك ألا يحفل الرسول [ ص ] ذلك المتاع الذي آتاه الله لبعض الناس رجالا ونساء - امتحانا وابتلاء - ولا يلقي إليه نظرة اهتمام . أو نظرة استجمال . أو نظرة تمن . فهو شيء زائل وشيء باطل ؛ ومعه هو الحق الباقي من المثاني والقرآن العظيم .
وهذه اللفتة كافية للموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي مع الرسول ، والمتاع الصغير الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل . يليها توجيه الرسول [ ص ] إلى إهمال القوم المتمتعين ، والعناية بالمؤمنين ، فهؤلاء هم أتباع الحق الذي جاء به ، والذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ؛ وأولئك هم أتباع الباطل الزائل الطاريء على صميم الوجود . .
ولا تهتم لمصيرهم السييء الذي تعلم أن عدل الله يقتضيه ، وأن الحق في الساعة يقتضيه . ودعهم لمصيرهم الحق .
والتعبير عن اللين والمودة والعطف بخفض الجناح تعبير تصويري ، يمثل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير .
القول في تأويل قوله تعالى { لاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تتمنينّ يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعا للأغنياء من قومك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاَخر ، يتمتعون فيها ، فإن مِنْ ورائهم عذابا غليظا . وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يقول : ولا تحزن على ما مُتّعوا به فعجّل لهم ، فإن لك في الاَخرة ما هو خير منه ، مع الذي قد عَجّلنا لك في الدنيا من الكرامة بإعطائنا السبع المثاني والقرآن العظيم يقال منه : مَدّ فلانٌ عينه إلى مال فلان : إذا اشتهاه وتمناه وأراده .
وذُكر عن ابن عيينة أنه كان يتأوّل هذه الاَية قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يَتَغَنّ بالقُرآنِ » : أي من لم يستغن به ، ويقول : ألا تَرَاهُ يَقُولُ : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعا مِنَ المَثانِي والقُرآنَ العَظِيمَ لا تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ ؟ فأمره بالاستغناء بالقرآن عن المال . قال : ومنه قول الاَخر : من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظّم صغيرا وصغّر عظيما .
وبنحو الذي قلنا في قوله : أزْوَاجا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لا تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ : الأغنياء ، الأمثال ، الأشباه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لا تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ قال : نُهِيَ الرجل أن يتمنى مال صاحبه .
وقوله : وَاخْفِضْ جَناحَكَ للْمُؤْمِنِينَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وألِن لمن أمن بك واتبعك واتبع كلامك ، وقرّبهم منك ، ولا تَجْفُ بهم ، ولا تَغْلُظ عليهم . يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين . والجناحان من بني آدم : جنباه ، والجناحان : الناحيتان ، ومنه قول الله تعالى ذكره : وَاضْمُمْ يَدَكَ إلى جنَاحِكَ قيل : معناه : إلى ناحيتك وجنبك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.