في هذه السورة الكريمة تهديد بيوم القيامة ، وتخويف بطوله وما فيه من أهوال جسام ، وعذاب لا تقبل فيه فدية بأبناء ولا صاحبة ولا أخ ولا فصيلة . بل لا يقبل فيه فدية بأهل الأرض جميعا .
وفيها نعى على الإنسان ضعفه في حال الضراء والسراء . إلا من عصمهم الله بالتقوى والعمل الصالح ، فإنهم يسلمون من هذا الضعف .
وفيها كذلك إنكار على الكافرين في أطماعهم الفاسدة . وختامها وصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم في سفههم ولعبهم ، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .
1 - دعا داع - استعجالا على سبيل الاستهزاء - بعذاب واقع من الله للكافرين لا محالة . ليس لذلك العذاب راد يصرفه عنهم ، فوقوعه لا شك فيه ، لأنه من الله صاحب الأمر والحكم النافذ .
{ سأل سائل } قرأ أهل المدينة والشام " سال " بغير همز وقرأ الآخرون بالهمز ، فمن همز فهو من السؤال ، ومن قرأ بغير همز قيل : هو لغة في السؤال ، يقال : سال يسال مثل خاف يخاف ، يعني سأل يسأل خفف الهمزة وجعلها ألفاً . وقيل : هو من السيل ، وسال واد من أودية جهنم ، يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والأول أصح . واختلفوا في الباء في قوله : { بعذاب } قيل : هي بمعنى " عن " كقوله : { فاسأل به خبيرا }( الأنفال-32 ) أي عنه خبيراً . ومعنى الآية : سأل عن عذاب ، { واقع } نازل كائن على من ينزل ولمن ذلك العذاب .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا }
يقول تعالى مبينا لجهل المعاندين ، واستعجالهم لعذاب الله ، استهزاء وتعنتا وتعجيزا :
{ سَأَلَ سَائِلٌ } أي : دعا داع ، واستفتح مستفتح { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ } لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم
القول في تأويل قوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مّنَ اللّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً .
قال أبو جعفر : اختلفت القرّاء في قراءة قوله : سأَلَ سائِلٌ فقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة : سأَلَ سائِلٌ بهمز سأل سائل ، بمعنى سأل سائل من الكفار عن عذاب الله ، بمن هو واقع وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة : «سال سائِلٌ » فلم يهمز سأل ، ووجهه إلى أنه فعل من السيل .
والذي هو أولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأه بالهمز لإجماع الحجة من القرّاء على ذلك ، وأن عامة أهل التأويل من السلف بمعنى الهمز تأوّلوه . ذكر من تأوّل ذلك كذلك ، وقال تأويله نحو قولنا فيه :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : سألَ سائِلٌ بعَذَابٍ وَاقِعٍ قال : ذاك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد إنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِنْدِكَ . . . الاَية ، قال سأَلَ سائِلٌ بعَذَابِ وَاقِعٍ .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جمعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قول الله : سأَلَ سائِلٌ قال : دعا داع بعذاب وَاقِعٍ : يقع في الاَخرة ، قال : وهو قولهم : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : سأَلَ سائِلٌ بعَذَابٍ وَاقِعٍ قال : سأل عذاب الله أقوام ، فبين الله على من يقع على الكافرين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : سأَلَ سائِلٌ قال : سأل عن عذاب واقع ، فقال الله : للْكافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ .
وأما الذين قرأوا ذلك بغير همز ، فإنهم قالوا : السائل واد من أودية جهنم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله الله : «سأل سائِلٌ بعَذَابٍ وَاقِعٍ » قال : قال بعض أهل العلم : هو واد في جهنم يقال له سائل .
وقوله : بِعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ يقول : سأل بعذاب للكافرين واجب لهم يوم القيامة واقع بهم .
ومعنى للْكافِرِينَ على الكافرين ، كالذي :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بِعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ يقول : واقع على الكافرينواللام في قوله للْكافِرِينَ من صلة الواقع .
وقوله : لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللّهِ ذِي المَعَارِجٍ يقول تعالى ذكره : ليس للعذاب الواقع على الكافرين من الله دافع يدفعه عنهم .
تفسير سورة المعارج{[1]}
قرأ جمهور السبعة : «سأل » بهمزة مخففة ، قالوا والمعنى : دعا داع ، والإشارة إلى من قال من قريش { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم }{[11306]} [ الأنفال : 32 ] . وروي أن قائل ذلك النضر بن الحارث ، وإلى من قال : { ربنا عجل لنا قطنا }{[11307]} [ ص : 16 ] ، ونحو هذا ، وقال بعضهم المعنى : بحث باحث ، واستفهم مستفهم ، قالوا والإشارة إلى قول قريش : متى هذا الوعد{[11308]} ؟ وما جرى مجراه قاله الحسن وقتادة ، فأما من قال استفهم مستفهم فالباء توصل توصيل عن ، كأنه قال عن عذاب ، وهذا كقول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
فإن تسألوني بالنساء فإنني*** بصير بأدواء النساء طبيب{[11309]}
وقرأ نافع بن عامر : «سال سائل » ساكنة الألف ، واختلفت القراءة بها ، فقال بعضهم : هي «سأل » المهموزة ، إلا أن الهمزة سهلت كما قال لا هناك المرتع{[11310]}
ونحو ذلك . وقال بعض هي لغة من يقول سلت أسأل ، ويتساولان{[11311]} ، وهي بلغة مشهورة حكاها سيبويه ، فتجيء الألف منقلبة من الواو التي هي عين كقال وحاق ، وأما قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] : [ البسيط ]
سالت هذيل رسول الله فاحشة*** ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب{[11312]}
فإن سيبويه قال : هو على لغة تسهيل الهمزة . وقال غيره : هو على لغة من قال : سلت ، وقال بعضهم في الآية : هو من سال يسيل : إذا جرى وليست من معنى السؤال ، قال زيد بن ثابت : في جهنم واد يسمى سايلاً ، والأخبار هاهنا عنه .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له لفظ السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه ، وقرأ ابن عباس : «سال سيْل » بسكون الياء{[11313]} ، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود : «سال ساٍل » مثل قال قال ، ألقيت الياء من الخط تخفيفاً ، والمراد «سائل » . وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة إنما كان على أنه كذب . فوصفه الله تعالى بأنه { واقع } وعيداً لهم .