المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المعارج{[1]}

وهي مكية لا خلاف بين الرواة في ذلك .

قرأ جمهور السبعة : «سأل » بهمزة مخففة ، قالوا والمعنى : دعا داع ، والإشارة إلى من قال من قريش { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم }{[11306]} [ الأنفال : 32 ] . وروي أن قائل ذلك النضر بن الحارث ، وإلى من قال : { ربنا عجل لنا قطنا }{[11307]} [ ص : 16 ] ، ونحو هذا ، وقال بعضهم المعنى : بحث باحث ، واستفهم مستفهم ، قالوا والإشارة إلى قول قريش : متى هذا الوعد{[11308]} ؟ وما جرى مجراه قاله الحسن وقتادة ، فأما من قال استفهم مستفهم فالباء توصل توصيل عن ، كأنه قال عن عذاب ، وهذا كقول علقمة بن عبدة : [ الطويل ]

فإن تسألوني بالنساء فإنني*** بصير بأدواء النساء طبيب{[11309]}

وقرأ نافع بن عامر : «سال سائل » ساكنة الألف ، واختلفت القراءة بها ، فقال بعضهم : هي «سأل » المهموزة ، إلا أن الهمزة سهلت كما قال لا هناك المرتع{[11310]}

ونحو ذلك . وقال بعض هي لغة من يقول سلت أسأل ، ويتساولان{[11311]} ، وهي بلغة مشهورة حكاها سيبويه ، فتجيء الألف منقلبة من الواو التي هي عين كقال وحاق ، وأما قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] : [ البسيط ]

سالت هذيل رسول الله فاحشة*** ضلّت هذيل بما سالت ولم تصب{[11312]}

فإن سيبويه قال : هو على لغة تسهيل الهمزة . وقال غيره : هو على لغة من قال : سلت ، وقال بعضهم في الآية : هو من سال يسيل : إذا جرى وليست من معنى السؤال ، قال زيد بن ثابت : في جهنم واد يسمى سايلاً ، والأخبار هاهنا عنه .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل إن لم يصح أمر الوادي أن يكون الإخبار عن نفوذ القدر بذلك العذاب قد استعير له لفظ السيل لما عهد من نفوذ السيل وتصميمه ، وقرأ ابن عباس : «سال سيْل » بسكون الياء{[11313]} ، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود : «سال ساٍل » مثل قال قال ، ألقيت الياء من الخط تخفيفاً ، والمراد «سائل » . وسؤال الكفار عن العذاب حسب قراءة الجماعة إنما كان على أنه كذب . فوصفه الله تعالى بأنه { واقع } وعيداً لهم .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[11306]:جاء ذلك في الآية 32 من سورة الأنفال.
[11307]:جاء ذلك في الآية 16 من سورة ص.
[11308]:جاء ذلك في الآية 48 من سورة يونس.
[11309]:هذا البيت من قصيدته المشهورة التي قالها في مدح الحارث ملك الغساسنة في الشام بعد وقعة "يوم حليمة" والتي بدأها بقوله: (طحابك قلب في الحسان طروب)، والأدواء: جمع داء، ويريد هنا طباعهن الخفية التي هي بمنزلة المرض فيهن، يقول: إنه خبير بطباع النساء وبوسائل معالجتهن، ثم ذكر بعد ذلك شيئا من خبرته بهن، والشاهد أن الباء في "بالنساء" بمعنى "عن" والمعنى: فإن تسألوني عن النساء.
[11310]:هذه الجملة وردت في آخر بيت للفرزدق، والبيت بتمامه: راحت بمسلمة البغال عشية فارعي فزارة لا هناك المرتع وهو في الديوان، والكتاب لسيبويه، والخصائص لابن جني، والمحتسب له أيضا، وفي شرح شواهد الشافية، وفي ابن يعيش، والمقتضب، وابن الشجري، والمقرب، وقد قال الفرزدق هذا البيت حين عزل مسلمة بن عبد الملك، وتولى بعده عمر بن هبيرة الفزاري، فهجا الفرزدق الفزاريين، ودعا عليهم هنا ألا يهنئوا بولايته. والبغال في البيت هي البغال التي حملت مسلمة عند عزله، يقول: إن البغال قد حملت مسلمة عشية، وأصبحت أنت يا فزارة صاحبة الأمر، فتصرفي في الأمور، وتمتعي بالخيرات، ولا هنئت بها ولا نعمت ، والشاهد إبدال الألف من الهمزة في "هناك"، وهي في الحقيقة ضرورة شعرية، وكان من الصحيح أن تجعل بين بين لأنها متحركة لا ساكنة.
[11311]:في بعض النسخ: "سال يسال"، وقد قال الزمخشري حين ذكر هذه اللغة: "وهما يتسايلان" ونحسبه خطأ من الناسخ لأن الزمخشري يعرف أن الكلمة واوية هنا.
[11312]:هذا البيت لحسان بن ثابت الأنصاري، وهو بيت وحيد قاله حسان يعير هذيلا وكانت قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباح لها الزنى، والشاهد فيه إبدال الهمزة ألفا من باب التسهيل وليس على لغة من قال: "سلت أسأل" قال الشنتمري:" لأن البيت لحسان وهذه ليست لغته". ومثل بيتي الفرزدق وحسان قول القرشي زيد بن عمرو بن نفيل عن زوجتيه حين طلبتا الطلاق منه: تلك عرساي تنطقان على عمـ ـد إلى اليوم قول زور وهتر سألتاني الطلاق أن رأتاني قل مالي، قد جئتماني بنكر وكون الشاعر من قريش ينفي أنه على لغة "سلت ولا يسال" بل هو من باب التخفيف بإبدال الهمزة ألفا.
[11313]:قال أبو الفتح تعليقا على هذه القراءة: "السيل هنا: الماء السائل، وأصله المصدر، من قولك: سال الماء سيلا، إلا أنه أوقع على الفاعل – أي قصد به معنى اسم الفاعل- كقوله تعالى: (إن أصبح ماؤكم غورا) أي: غائرا".