تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{سَأَلَ سَآئِلُۢ بِعَذَابٖ وَاقِعٖ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة المعارج

( سورة المعارج مكية ، وآياتها 44 آية ، نزلت بعد سورة الحاقة )

تبدأ السورة بهذا المطلع المتميز ، وهو سؤال سأله أحد الكافرين عن يوم القيامة ، سؤال تهكم أو استعجال لهذا اليوم .

وفي الإجابة على هذا السؤال وصفت السورة يوم القيامة وألوان الهوان النفسي والحسي الذي يصيب الكافرين فيه ، ثم وصفت هلع الإنسان وجزعه ، واستثنت المؤمنين الموصولين بالله ، فهم في يقين ثابت وأدب كريم .

تنوع أساليب القرآن :

سورة المعارج جولة من جولات المعركة الطويلة الشاقة التي خاضها القرآن في داخل النفس البشرية ، وخلال دروبها ومنحنياتها ، ورواسبها وركامها ، وهي أضخم من المعارك الحربية .

لقد سلك القرآن كل سبيل ليصل إلى نفوس المشركين ويقنع الجاحدين ، ويثبّت المؤمنين ، ولوّن القرآن في طرق الهداية والدعوة ، ومواجهة النفوس الجامحة .

( فتارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر ، من الدلائل الموحية والمؤثرات الجارفة ، وتارة يواجهها بما يشبه السياط اللاذعة ، وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة ، والمسارة الودود التي تهفو لها المشاعر وتأنس لها القلوب ، وتارة يواجهها بالهول المرعب والصرخة المفزعة التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب ، وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة ونصاعة ، وتارة يواجهها بالأمل والرجاء الذي يهتف لها ويناجيها ، وتارة يتخيل مساربها ودروبها ومنحنياتها ، فيلقى عليها الأضواء الكاشفة . . . ومئات اللمسات والمؤثرات ، يطلع عليها قارئ القرآن الكريم )i وهو يتابع تلك المعركة الطويلة التي قادها القرآن على عادات الجاهلية وركامها حتى انتصر عليها .

وسورة المعارج لون من ألوان البيان القرآني ، في تقرير حقيقة الآخرة ، وما فيها من جزاء ، وموازين هذا الجزاء ، وإقرار هذه الحقيقة في النفوس . وتكاد تكون لونا من ألوان السياط اللاذعة ، والأضواء الكاشفة التي ساقها القرآن لتفتح عيون المشركين على ما هم فيه من ضلال ، وما ينتظرهم من حساب وعقاب .

مع آيات السورة

1- 5- يسأل المشركونii رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال استهزاء عن العذاب الذي يخوفهم به ، ويجيب الله سبحانه بأنه واقع لا شك في وقوعه ، ولا يستطيع أحد دفعه ، وهذا العذاب من الله ذي الدرجات العلى ، ويأمر الله نبيه بالصبر الجميل الهادئ .

6- 14- كان الكفار ينكرون حقيقة الآخرة ، ويرونها بعيدة الوقوع ، وقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهشة والاستغراب .

وقد بينت الآيات أن ذلك اليوم قريب الوقوع ، وكل آت قريب ، ثم رسمت مشاهد هذا اليوم في مجال الكون وأغوار النفس ، وهي مشاهد توحي بالهول الشديد في الكون وفي النفس . وفي يوم القيامة تكون السماء ، كالمهل . والمهل : ذوب المعادن الكدر ، أي كدردي الزيت . وتكون الجبال . كالعهن : أي كالصوف الواهن المنتفش ، ويتمنى الكافر في ذلك اليوم لو يفتدي من العذاب ببنيه ، وزوجته وأخيه ، وقبيلته وجميع من في الأرض وهي صورة للهول الشديد الذي يصيب الكافر فيتمنى النجاة ولو قدم أعز الناس إليه ، ومن كان يفتديهم بنفسه في الحياة .

15- 18- تردع الآيات هذا الكافر عن تلك الأماني المستحيلة ، في الافتداء بالبنين والعشيرة . وتبين للكافر أن ما أمامه هو النار ، تتلظى وتتحرق ، وتنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس نزعا ، وهي غول مفزعة تنادي من أعرض عن الحق ، وحرص على المال وبخل به ، ليدخل فيها .

19- 21- جبل الإنسان على الهلع فهو قليل الصبر ، شديد الحرص ، يجزع إذا نزل به الضر والألم ، فلا يتصور أن هناك فرجا ، ومن ثم يأكله الجزع ، ويمزقه الهلع ، كما يغلبه الحرص والبخل عند وجود المال والعافية .

22- 35- تستثنى الآيات المصلين ، فإنهم يحافظون على صلاتهم ، فتمنحهم الصلاة الثبات والاستقرار ، وتراهم صابرين في البأساء ، شاكرين في النعماء ، يخرجون زكاة أموالهم ، ويتصدقون على الفقراء ، ويصدقون بيوم الجزاء ، ويخافون غضب الله وعقابه ، ويتسمون بالاستقامة والعفة ، وحفظ الفروج عن الحرام ، والتمتع بالحلال من الزوجة وملك اليمين ، وأداء الشهادة بالحق والعدل ، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها ، وأداء سننها وآدابها وخشوعها ، تلك الصفات هي صفات هذا الفريق المؤمن الذي يستحق الجنة والتكريم ، ويتمتع بالنعيم الحسي والنعيم الروحي : أولئك في جنات مكرمون . ( المعارج : 35 ) .

36 ، 37- تعرض الآيتان مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول يتلو القرآن ، ثم يتفرقون حواليه جماعات وفئات ، لا ليسمعوا ويهتدوا ، ولكن ليستطلعوا ثم يتفرقوا يدبرون الكيد والرد على ما سمعوا .

38- أيطمعون في دخول الجنة وهم على هذا الحال من الإعراض والتكذيب ؟

39- 41- لقد خلقوا من ماء مهين ، وهم يعلمون أصل خلقتهم ، إن الله قادر على أن يخلق خيرا منهم ، وهم لا يسبقونه ولا يفوتونه ، ولا يهربون من مصيرهم المحتوم .

42 ، 43- ثم تتجه الآيات في الختام إلى وعيدهم وتهديدهم بيوم الجزاء ، يوم يخرجون من القبور مسرعين ، كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه ، وهم ، يوفضون . أي يسرعون .

40- وترسم الآية الأخيرة سماتهم ، وتلمح صورة ذليلة عانية ، في ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون به ، فيستريبون فيه ويشكون .

المعنى الإجمالي للسورة

( بيان جزاء الكافر في استعجال العذاب ، وطول القيامة وهولها ، وشغل الخلائق في ذلك اليوم المهيب ، وتصوير النفس البشرية في السراء والضراء ، وبيان محافظة المؤمنين على خصال الخير ، وطمع الكفار في غير مطمع ، وذل الكافرين يوم القيامة )iii في قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون . ( المعارج : 44 ) .

أسماء السورة :

من أسماء السورة : سأل سائل لافتتاحها بذلك ، والمعارج لقوله تعالى فيها : من الله ذي المعارج .

أهوال القيامة

بسم اله الرحمان الرحيم

{ سأل سائل بعذاب واقع 1 للكافرين ليس له دافع 2 من الله ذي المعارج 3 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 4 فاصبر صبرا جميلا 5 إنهم يرونه بعيدا 6 ونراه قريبا 7 يوم تكون السماء كالمهل 8 وتكون الجبال كالعهن 9 ولا يسأل حميم حميما 10 يبصّرونهم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه 11 وصاحبته وأخيه 12 وفصيلته التي تؤويه 13 ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه 14 كلاّ إنها لظى 15 نزّاعة للشوى 16 تدعوا من أدبر وتولّى 17 وجمع فأوعى 18* }

المفردات :

سأل سائل : دعا داع .

ليس له دافع : إنه واقع لا محالة ، ونازل وحاصل ، لا مانع يردّه .

المعارج : واحدها معرج وهو المصعد ( أسانسير ) ، أي صاحب المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة من سماء إلى سماء .

الروح : جبريل عليه السلام .

1

التفسير :

1 ، 2 ، 3 ، 4- سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين ليس له دافع* من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

دعا داع ، وطلب كافر من كفار مكة لنفسه ولقومه نزول عذاب واقع لا محالة ، والسائل هو النضر ابن الحارث ، من صناديد قريش وطواغيتها ، لما خوّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال استهزاء : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . ( الأنفال : 32 ) .

فأهلكه الله يوم بدر ، ومات شرّ ميتة ، ونزلت الآية بذمّه ، وهذا العذاب نازل بالكافرين لا محالة ، لا يستطيع أحد أن يدفعه أو يمنعه ، لأنه من الله الغالب ، ولا يغلب الله غالب .

من الله ذي المعارج .

هذا العذاب نازل وصادر من الله تعالى ، صاحب المصاعد التي تصعد منها الملائكة وتنزل بأمره ووحيه .

تعرج الملائكة والروح إليه . . .

تصعد الملائكة وجبريل الأمين من سماء إلى سماء ، إلى عرش الرحمان ، حيث تهبط أوامره سبحانه وتعالى ، ويد القدرة تمسك بزمام هذا الكون ، وترفع السماء ، وتبسط الأرض ، وتسخّر السحاب والفضاء ، وتيسّر مصاعد الملائكة إليه ومعها أعمال العباد .

روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة العصر وفي صلاة الفجر ، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ( الإسراء : 78 ) . فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربّهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : يا ربنا ، تركناهم وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون ، فاغفر لهم يوم الدّين )iv .

والملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

أي : ذلك العذاب واقع لهؤلاء الكفار في يوم طويل ، يمتد إلى خمسين ألف سنة .

قال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار .

والجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون . ( السجدة : 5 ) .

أن القيامة مواقف ومواطن ، فيها خمسون موطنا ، كل موطن ألف سنة ( وأن هذه المدة الطويلة تخفّ على المؤمن حتى تكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا )v .